أميركا والكرد.. بين الأمن والأخلاق
خورشيد دلّي
بعد أيام من تحذير السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، من خداع الإدارة الأميركية كرد سورية، واستخدامهم ورقةً في معركة تحرير الرّقة من “داعش”، ومن ثم وقف الدعم عنهم، وتركهم لمصيرهم، أعلن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، إنه ضد إجراء استفتاء في إقليم كردستان العراق. وقد وجهت التصريحات الأميركية هذه وغيرها الأنظار إلى العلاقة الأميركية – الكردية، وإلى الإشكالات التي تثيرها هذه العلاقة، على شكل جدل وأسئلة ومخاوف لا تنتهي، وهي من نوع، كيف تنظر الولايات المتحدة إلى الكرد وقضيتهم أو قضاياهم؟ هل تنطلق في سياستها تجاه الكرد من اعتبار القضية الكردية سياسيةً، بوصفها تخص شعباً محروماً من حقوقه الوطنية، أسوة بالعرب والفرس والأتراك، أم إنها تدخل في إطار الأولويات الأمنية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط؟
يمكن القول إنه، منذ العشرينيات وحتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، أي حتى تاريخ حرب الخليج الأولى 1991، لم تكن علاقات الولايات المتحدة بالحركة الكردية سياسية علنية كما حالها الآن مع كرد العراق وسورية، بل كانت علاقاتٍ أمنيةً سريةً، تندرج في الإطار الاستخباراتي، وكانت الولايات المتحدة تنظر دائماً إلى الكرد على أنهم عامل بشري أمني مهم في منطقة استراتيجية مهمة، تتجاذبها التيارات القومية والدينية والمصالح النفطية والاقتصادية، أي أن جوهر السياسة الأميركية تجاه الكرد لم يكن يقوم على اعتبار قضية الكرد شأناً كردياً مستقلاً، بل على اعتبارها أولويةً أمنيةً، يمكن استخدامها في الظرف المناسب ضد هذا الطرف الإقليمي المعني بالقضية الكردية أو ذاك، حسب أولويات السياسة الأميركية وأجندتها.
كانت القاعدة الذهبية في هذه المعادلة أن الغرب، بشقيه الأميركي والأوروبي، يسعى دوماً إلى وضع دول المنطقة أمام واقع القضية الكردية بتشابكاتها المعقدة، وعندما يحقّق مصالحه مع هذه الدول، فإنه يضع الكرد أمام الأمر الواقع الصعب، ليكونوا بذلك هم ضحية هذه السياسة نفسها. فعلى الأقل، هذا ما حصل مع انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، فعلى الرغم من أن اتفاقية سيفر عام 1920 أقرت في بنودها 62 – 63 -64 إقامة كيان قومي كردي في المنطقة، إلى جانب الكيانات الأخرى التي أقيمت، إلا أن الغرب سرعان ما تنصّل من هذه البنود، عندما لاحت، في الأفق، ملامح تحالف بين القائد التركي الصاعد، كمال أتاتورك، والثورة البلشفية في روسيا الطامحة إلى الوصول إلى البوسفور، فكانت اتفاقية لوزان التي قضت عملياً على الآمال الكردية، خصوصاً بعد أن تفرغ أتاتورك للداخل، وقمع ثورات الكرد بقسوة شديدة حتى نهاية عهده. وفي التجربة التاريخية لعلاقة الكرد بالولايات المتحدة، هناك لحظات تاريخية عديدة تحولت إلى انتكاساتٍ مأساوية، عبرت في الوجدان الكردي عن خيانة الغرب للأماني التي دافع الكرد من أجلها طويلاً، في حين كان الساسة في الغرب يقولون، مع كل انتكاسة كردية: إنهم كانوا يقومون بواجبهم، وعلى الكرد أن يميّزوا بين النشاط الاستخباري والعمل التبشيري. هذا ما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، رداً على مناشدات الملا مصطفى البرزاني له، عقب الانتكاسة الكردية في عام 1975. وعليه، الذاكرة الكردية مليئة بصور الخيبة والفجيعة والأقدار… تلك الصور النابعة من مأساة السياسة على مذبح الاستراتيجيات الغربية المرتبطة بالمصالح والعلاقات والتحالفات الدولية.
في أحيان كثيرة، تبدو العلاقة الكردية الأميركية خاضعةً لشكل الحدث نفسه، وعلاقته بالدول المعنية بالقضية الكردية على شكل دورة الأقدار والمصالح. تبدأ الدورة مع حدوث مأساة كردية هنا أو هناك، ومعها تطفو إلى سطح الأحداث الدعائم الإنسانية والسلمية التي يتقرّب الغرب على أساسها من الكرد.
وفي اللحظة التي تتحوّل فيها هذه المأساة واقعاً سياسياً وكيانياً على الأرض، تبدأ الدورة بالنزول، وكأنها أمام امتحانٍ على مذبح المصالح والاعتبارات الأمنية لعلاقة الغرب بالدول الإقليمية المعنية بالقضية الكردية. هذه القراءة، على الرغم من تاريخيتها، لم تعد في نظر كردٍ كثيرين حاضرةً في راهن العلاقة، أو على الأقل، تغيرت ظروفها والعوامل التي تتحكم بها، إذ يقول هؤلاء إنه يجب ألا نقلل من وضع الكيان الكردي الناشئ في العراق، وتحوله إلى شكلٍ من أشكال الدولة، وكذلك تحول كرد سورية إلى لاعبٍ مهم في الأزمة السورية. وفي الإجمال، تحول الكرد، في عموم المنطقة، إلى رقم صعب في المعادلات الإقليمية والدولية. بمعنى آخر، ثمّة من يرى أن القراءة الأميركية للكرد ودورهم في مستقبل المنطقة تغيرت على وقع الحرب ضد “داعش” وأهمية دورهم في تفكيك خريطة المنطقة، وإعادة تركيب الشرق الأوسط.
ما سبق لا يلغي قناعة بعضهم بأن الكرد، وعلى الرغم من تجربتهم المريرة مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، إلا أنهم لم يُحسنوا فهم السياسة الأميركية، فهم إما نظروا إليها بصفتها الإمبريالية والاستعمارية، ويجب تالياً محاربتها أو التعامل معها بصفتها قوة ضاربة في كل زمان ومكان. وبالتالي، يمكن الاعتماد عليها من دون حساب. وفي الحالتين، تبقى معادلة أن يكون الكرد هم الضحية قائمة، ففي الحالة الأولى، تحولوا إرهابيين، كما هو التصنيف الأميركي لحزب العمال الكردستاني. وفي الحالة الثانية، تحولوا عملاء للإمبريالية والصهيونية، يعملون لتقسيم العراق والمنطقة، في نظر تيارات قومية وإسلامية متشدّدة كثيرة، فضلاً عن النظام الرسمي العربي.
في الواقع، إذا كانت القراءة الظاهرية للسياسة الأميركية تجاه القضية الكردية تبدو متناقضةً بين بعديها الأمني والأخلاقي، إلا أنها، في الجوهر، تعبر عن ثابت المصالح الذي يستخدم كل الوسائل الممكنة لتحقيق الأجندة.
التعليقات مغلقة.