الحسكة مدينة الكينا
إبراهيم خليل
مثلما يراقب طفل أمه وهي تكبر من دون أن يدرك ماذا تعني كلمة الزمن، راقبتها بعينين صافيتين وهي تشب ثم تكتهل ثم تهرم، ثم تموت المرة تلو اﻷخرى؛ لتنبعث في كل مرة من رماد “نوبل” الملتحي بفستانها الوردي وشرائطها الملونة وخرزاتها الزرق وكأن شيئا لم يكن. ومثلما يعتني نهر بكل قطرة من قطراته اعتنت بي من دون حتى أن تحفظ وجهي أو تعرف اسمي. كان قدرها أن تتحول إلى مدينة على الورق في دولة مخططة بالمسطرة ومؤسسة على رمال ذارية. الفضاء المفتوح على اتساعه الذي شهد قيامة الطين ثم قيامة اﻹسمنت في غفلة عن نظام حكم “وطني ما بعد استعماري” اعتبرها “سلة غلال” وشقّ منها طريقين فقط نحو العاصمة، واحدة لاستجرار الحنطة والبترول واﻷخرى لاستجرار المجندين والمعتقلين السياسيين.
وهكذا أيها الطفل الذي نبت فجأة في هذا المكان: ما دمت لا تحمل ساعة يد فاﻷيام سنوات لا تكاد تنقضي، والسنوات بطيئة مثل قرن، وثمة وقت كثير ومتاح لفعل كل شيء وأي شيء. وما دمت تخط بقلم الرصاص فكل شيء قابل للمحو، وما دمت تندهش لكل شيء فسيبقى العالم مدهشا. تسأل والدك بائع الدخان: ما دامت هذه اﻷشياء مضرّة لماذا لا تمنعها الحكومة؟ فيضحك من أعماقه وكأنك قلت نكتة. فجأة في فصل لا تعرف اسمه تهبّ الفراشات من مكان ما من الجنوب، وفجأة في ساعة مبكرة من صباح ندي ترى اﻷسطح الطينية مزركشة بأزهار صفراء يسميها الكبار بالخردل. الهواء النقي يحمل معه أنفاس الفجر، عبير زهر العسل يفوح من سور حديقة المنزل اﻷنيق وعلى البلكون صبية بضة مع فنجان قهوة وأغنية لفيروز تنحت المشهد في رخام الذاكرة نحتا.
“ماكوندو” التي تكبر فقط ﻷنها يجب أن تكبر، ويجب أن تزورها لتسمع باسمها، ويجب أن تنام فيها لتشمّ في الصباح رائحة التراب. إن لم تبق فيها لن تعرف ما هي العزلة، وإن لم تغادرها لن تعرف ما هي المدينة. تبسق الكينا في كل مكان. لا أحد يعرف إن كان لها طفولة ما لكن رائحة أوراقها الواخزة مثل “شاي المادلين” على مائدة النسيان، على أطراف اﻷرصفة ومشارف المقابر وأحواش المؤسسات الرسمية، وفي أي مكان يحتاج فيه عصفور غصنا لبناء عش ستجد شجرة كينا. وهكذا أيها الطفل الذي شاب فجأة: سكن هدير “الخابور” وتحول إلى شعاب طينية ثم ترابية مشققة، وبقيت الناس تسير فوق جسوره الفاصلة بين الشمال والجنوب بحكم العادة لا بحكم الحاجة. خفت صرير القطار حتى خمد أخيرا، ومع ذلك لا تستطيع وأنت تطأ السكة الصدئة ألا تنظر – أيضا بحكم العادة – إلى يمينك حيث القامشلي ويسارك حيث حلب. قبل حوالي قرن في يوم ربيعي كهذا، وقف الكولونيل “غروندو” على أطلال القره قول العثماني وأمر ببناء “كتيبة المشرق” فوقها. وبعد عقدين من الزمان اضطر إلى الانسحاب منها ﻷن سنابك خيل هتلر دكت عاصمة ملكه، تماما كما سينسحب هتلر من باريس، ﻷن سنابك خيل اﻷميركان والروس دهمت برلين.
أنا هنا والحسكة هناك في ضباب الجغرافيا لا تحلّق من خشية السقوط ولا تغوص من خشية الغرق ولا تسير من خشية التعثر، لم يذكرها التاريخ مرة، لم يظهر فيها شخص بارز ولم تجر على أرضها أي معركة. المدينة التي تتبع الحاكم الذي ينصبه التلفزيون لم تعرف ثورة ولا انقلابا ولا حتى مظاهرة، المدينة التي لا تشتهر بأي معلم، المدينة التي لا تتشبث كثيراً بصفة المدينة ومستعدة في أي لحظة أن تعود قرية…
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.