لماذا يتسامح العالم مع التهجير القسري في سورية؟

36

رضوان زيادة

من يتابع مجريات الأمور في سورية اليوم، يشعر في كل مرة بأن الكارثة السورية وصلت إلى أقصى القاع، لكنه يكتشف أن القاع ذاته لم يعد له قاع، وأن حقائق جديدة باتت تتشكل على الأرض، ففي عام 2011 لم يتصور أي سوري أن النظام السوري سيستخدم الطائرات المقاتلة كما فعل القذافي في أوائل عام 2011 لقتل شعبه. قلنا لأنفسنا في ذلك الوقت إننا «أكثر تحضراً»، وأن «إجرام» النظام مهما علا فإن «مهنية» الجيش والمؤسسات ربما تمنع ذلك، كما أن ما يسمى «المجتمع الدولي» لن يسمح بذلك. ونسمح لأنفسنا بالتذكر دوماً كيف تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا بعد التهديد باستخدام القوة الجوية ضد المدنيين في بنغازي! في عام 2013 وبعد ذلك بدأت البراميل المتفجرة تمطر وأصبحت السلاح الأكثر استخداماً وانتشاراً، كما باتت السلاح الأكثر شعبية لدى الأسد ضد المدنيين السوريين كل يوم وفي كل مدينة في المناطق التي أصبحت خارج سيطرة حكومة الأسد، فقد قتل أكثر من 120 ألفاً بسبب استخدام هذه البراميل المتفجرة، لكن استجابة المجتمع الدولي لهذه المأساة كانت تغض الطرف عن هذا الانتهاك المستمر للقانون الدولي الإنساني.

بعد ذلك، ما زلت أتذكر مناقشتنا في ورش العمل ومؤتمرات المعارضة السورية حول استخدام الأسلحة الكيماوية. كل واحد منا في عام 2012 قال بوضوح أن حكومة الأسد لا تستطيع عبور الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس أوباما، ولكن فوق ذلك كله ليس لدى النظام حاجة لاستخدام مثل هذا النوع من الغاز مثل السارين وغيره لا سيما أنه يستمر في سياسة قتل الناس بالأسلحة التقليدية، لكن، وللأسف كنا مخطئين هنا مرة أخرى، استخدمت حكومة الأسد غاز السارين في آب (أغسطس) 2013، وقتل أكثر من 1400 بينهم 400 من الأطفال، ومرة ​​أخرى أخبرتنا الحكومة السورية والعالم بأنها تخلت عن كل ترسانتها من الأسلحة الكيماوية بعد الاتفاق بين الولايات المتحدة تحت إدارة أوباما وروسيا في عام 2013، ولكن مرة أخرى استخدمت الحكومة السورية غاز السارين في نيسان (أبريل) 2017 وأسفر ذلك عن مقتل ما لا يقل عن 83 شخصاً في خان شيخون في إدلب، وبين هذين الحادثين استخدمت الحكومة السورية غاز الكلور 50 مرة على الأقل وفي شكل رئيسي وعلى نطاق واسع في معركة حلب حيث نجحت في إجبار المعارضة على مغادرة الأراضي التي تسيطر عليها منذ عام 2012 في منطقة شرق حلب.

الآن، ما هو القاع الجديد؟ كل واحد منا ينكر حقيقة أن سورية تمر بمرحلة من التقسيم، فليس واضحاً كيف سيبدو أو سيكون هذا التقسيم؟ وما هي القوى الدافعة وراء ذلك، ولكن منذ عام 2015 بدأت لعبة التغيير الديموغرافي وعلى نطاق ضيق اتسع نطاقه باطراد عبر ما سمته الحكومة السورية «المصالحة المحلية»، أما المعارضة فأطلقت عليها سياسة «التطهير العرقي» لغالبية السكان السنّة بمنح الجنسية لمزيد من الشيعة العراقيين والإيرانيين والأفغان ليحلوا محلهم في بلداتهم وقراهم التي تم إجبارهم على تركها.

لكن ما جرى الشهر الماضي كان لافتاً للغاية، وهي الصفقة التي أصبح يطلق عليها «المدن الأربع» التي تعني مبادلة بين المدنيين والمسلحين في الفوعة وكفريا (وهما بلدتان شيعيتان) اللتان كانتا تحت الحصار من قبل المعارضة السورية المسلحة، مع المدنيين والمقاتلين من الزبداني ومضايا (وهما مدينتان سنيتان) وكلتاهما كانتا تحت الحصار من قبل الحكومة السورية بشكل يمنع الغذاء أو المياه لمدة ثلاث سنوات تقريباً، وغطت وسائل الإعلام الدولية صور الأطفال من مضايا الذين ماتوا بسبب الجوع في عام 2014.

جاءت هذه الصفقة بعد خمس صفقات مختلفة قبلها شملت المدن الرئيسية التي شاركت في الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عام 2011 ثم انضمت إلى المعارضة المسلحة بهدف منع قوات الحكومة السورية من الغزو أو الاحتلال بغية قتل المدنيين، كما جرى في مدينة حمص، حيث نظم النظام اتفاقاً مع مقاتلي «الجيش السوري الحر» لطرد المقاتلين البالغ عددهم 2250 مقاتلاً، فضلاً عن المدنيين المحاصرين معهم في المدينة إلى الريف الشمالي. وأدى هذا الاتفاق إلى إفراغ المدينة القديمة تماماً من سكانها الأصليين، لجذب المزيد من الموالين للحكومة بدلاً منهم، حيث انخفض عدد سكان حمص من مليون ونصف المليون في عام 2011 إلى ما يقرب من 400 ألف شخص الآن، و65 في المئة من سكان المدينة الأصليين غادروا إلى محافظة إدلب.

تبعتها مدينة داريا التي وضعتها حكومة الأسد تحت الحصار الشديد واعتمد المدنيون تماماً على الأنفاق تحت الأرض لمدة 4 سنوات من أجل استمرار الحياة كما تعرضت لقصف استثنائي عبر إسقاط البراميل المتفجرة في شكل يومي، حتى أن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق شؤون الإغاثة في حالات الطوارئ، ستيفن أوبراين، وصف داريا في إحاطة له لمجلس الأمن بأنها «عاصمة البراميل المتفجرة»، ولكن وفي نهاية عام 2016 قرر المدنيون والمسلحون الانسحاب من المدينة بعد تهديدات من الحكومة بأنهم سيحرقون ما تبقى منها. غادر المدنيون إلى إدلب التي أصبحت عاصمة المعارضة. هذه هي الصفقة الثانية التي فتحت الباب للسياسة الجديدة التي اعتمدها النظام السوري والقائمة على «التهجير القسري». كان عدد سكان المدينة 250 ألفاً قبل عام 2011 واليوم تحولت إلى مدينة فارغة بالمطلق. وعندما أتم النظام السوري عملية التهجير زار الأسد المدينة الخاوية على عروشها وأجاب عن مسألة التغير السكاني في داريا وغيرها بالقول إن «التغير الديموغرافي هو تغير يتم عبر الأجيال».

ما جرى في داريا في كانون الأول (ديسمبر) 2016، تكرر في مدينة حلب في أوائل عام 2017، حيث بدأت قوات النظام السوري مع الميليشيات العراقية والإيرانية المدعومة من القوات الجوية الروسية باستخدام التكتيكات نفسها التي استخدمتها وتم توثيقها في شكل جيد من قبل تقرير مجلس الأطلسي بعنوان «كسر حلب» عبر استخدام البراميل المتفجرة والقنابل الثقيلة الأخرى واستهدفت جميعها المستشفيات والمراكز الطبية، ثم استخدام غاز الكلور عبر رسالة واضحة للمدنيين والمسلحين أنه لا يوجد رحمة وليس هناك خيار آخر بدلاً من قبول الصفقة التي تعني إخلاء المنازل والأحياء. نفس النمط تكرر في مضايا والزبداني.

ينص القانون الدولي الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف التي وقعتها سورية والتزمت بها في المادة 129 بوضوح على أنه «لا يجوز لكل الأطراف في أي نزاع مسلح غير دولي أن تأمر بتهجير السكان المدنيين كلياً أو جزئياً لأسباب تتعلق بالنزاع»، كما أن ميثاق المحكمة الجنائية الدولية نص بوضوح على أن «تهجير السكان المدنيين لأسباب تتعلق بالنزاع، يشكل جريمة حرب».

إن منع التغيير الديموغرافي والتطهير العرقي الذي يحدث في سورية اليوم يتطلب موقفاً صريحاً وواضحاً من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، أنه لا معنى لاستمرار مفاوضات عبثية في جنيف إذا استمر التغيير السكاني لسورية بهدف تحقيق مخططات مسبقة لدى النظام السوري، كما أن ذلك يتطلب أيضاً قيادة جديدة من قبل الولايات المتحدة في الضغط على روسيا لوقف هذه السياسة المنهجية، وإلا فإننا سنستمر في رؤية سورية التي نعرفها وهي تختفي أمام أعيننا وإلى الأبد.

المصدر: الحياة

 

التعليقات مغلقة.