جديلة قرب النهر

66
ابراهيم حسو

إبراهيم حسو

تشكيلة من ألواح شعرية ودائعية للأزمنة التي عبرها حكمت داوود ولم يتوقف عندها أو توقفه، لكن الأمكنة (دمشق) بالذات هي التي عطلت الشاعر وأكرهته على العودة إلى قبل ست سنوات من الحرب، حيث الحياة بكل معانيها والموت بكل مغازه يعيشان جنباً إلى جنب، وفي رخاء وتآلف لا حدود لهما، كأن الشعر هنا يتشبّه بالسياسة في تقطيعه للحياة نفسها، منْ كان يحفل بتفاصيل الموتى، ومنْ كان يبصر الموت بأم عينه، يتلمسّه ويحضنه في أزمان كثيرة، منْ كان يريد أن يعيش أكثر في بلد يكون فيه العيش مستطاعاً بكل شساعته؟

لقد بات الموتى يرثون الموتى، وأصبح الاحتفاء بالموت والتغني به عادة وفولكلوراً رسمياً لسوريا، كأنه احتفاء بالحياة، ومع ذلك ظل الشعر يقصى بنفسه مجرباً تقديم معنى آخر للموت والهلاك والفتك المجاني، لتتحضّر اللغة لمعركة برهنة البقاء والهجرة عبر تغيير الكثير من معاني ومفردات ودلالات الحياة اليومية والذهنية، وحكمت داوود عرف جيداً رغم التباس اللغة، أن الشعر لا يموت أبداً، وإن توقف هنا أو هناك، إلا أنه مداوم في حب الحب ودمشق والأشياء الحميمة والأنا، فكلمتَيْ (الموت والحياة) لديه تفضيان إلى العدم المنظور المرئي، وإن كان المرئي هنا حضورًا جسديًا يغلفه الموت، ليصار إلى هلام، وإن العدم غياب للحياة التي لا تظهر إلا مختفية في شكل من إشكال اللامرئي، كل شيء في نص داوود (جديلة قرب النهر) هلام في هلام، وثمة ما هو أكثر من هلام وأكثر من العدم نفسه، ثمة مسافة بين إن تصدِّق الموت وتجعله صديقاً يعيش معك كما تعيش معك قصيدتك، وبين إن تكذِّب الحياة التي تفضي بالنهاية إلى يقين يصبح جزءاً من قصيدتك.

القصيدة التي يمكن لأي قارئ عادي في الشعر أن يرى فيها روحه وموطئ ألمه، إذ ثمة يد تلوّح ليس وداعاً إنما نداءً أو تضرعاً للموت، نحن نصدِّق الكلمات التي تودعنا واحدة واحدة، بل هي المرة الأولى التي يناهز فيه الشعر من نفسه، إلى هذا الحد الفظيع من الألم، إلى هذا الحد من الفجيعة (السورية) ومصافحاً ومعانقاً لها، كأن الفجيعة والحياة لدى حكمت هما مثليتان تزاوجتا سراً، تقتسمان الحضور والغياب في لعبة هستيرية تسيّرها البلاغة، وتحتضنها الأمكنة والأشياء والإنسان، هي جدلية من يبقى ويزول، من يرى ويغمض الحياة في قلبه، شاعر في هلامية حكمت داوود وشفافيته، يصعب على الحرب أن تسلبه من الشعر والتشكيل والحب، فالحب في نصوصه جسر بين السماء ونقيضها، بينهما اتفاق وصك أبدي للاحترام المتبادل، مثلما تفترض قوانين الأعراف والشرائع الشعرية المتعارفة، جاعلاً من قصيدة الحرب تاريخاً جديداً أو تدويناً صورياً للإنسان السوري، لقد أفاد داوود من نظام القصة القصيرة جداً، عبر صوره الكثيفة جدا والتي يبتكرها على قاعدة الإشارات البسيطة، حيث لا شيء له معنى مركزي بقدر ما هو لوحات متداخلة ومتناقضة، مشفَّرة بكلمة أو مفردة، أو حتى صورة، أو مجرد حركة إيمائية منفلتة، وهذا كله يعتمد على موهبة القصّ الشعريّ المركّز، على تلك الشحنة اللغوية السريعة الخاطفة، التي تشبه سقوط نيزك، فاللغة هنا تتحرر من بساطتها ودلالتها وتشابكها، لتوّطد علاقة أخرى بين الانفعالات الحسية، (آثار الحرب وتوابعها) وبين طاقة التعبير القصوى التي تصل إلى حالة الهذر والانفلات، لقد أسهم داوود في إعادة الفعل الشعري إلى المتن، ليظهر الشاعر بكامل أناه، ويعلن عن صناعة الجمال دون مختبر أو معمل بلاغي، فهنا لا مكان للتجريب  ولا مقاربة للسردي إلا كمعيار إيقاعي خارج الشعر نفسه، فالشاعر لا ينتج إلا ما ورثه من ثقافة منطوقة، ثقافة ولدت من خراب كل القيم وزوالها، هذا إن بقي للزوال معنى مرادفا (هنا دمشق جدائل دم ورصاص، نلعب الشطرنج ونشرب نخب الموت الآتي، نجدل شعر الخانات بالأبيض والأسود، لا نكترث، ما دامت اللعبة ستنتهي بموت الملك. حين ذبلت منّا وردة؛ لم تقو أكفنا المشلولة على حمل نعشك) في جانب آخر من كتابة حكمت، نعثر على حب ما يظهر هنا ويدفن هناك، لقد دفنت الحرب كل شيء معها، لكن الشاعر يحاول أن يلملم كل هذا الخراب في تشكيل رائع، مستفيداً من تضادات اللغة وتنافرها، ومن بطش الواقع وعياً جديداً أصبح فيما بعد إسهاباً جمالياً، ومشهداً شيقاً للمشاعر، واقتراحاً روحياً لسيرة شاعر يعيش الحرب بكل جمالياتها وقبحها، هذا إن سلّمنا أن للحرب جماليات كما للقبح.

نشرت هذه المادة في العدد 62 من صحيفة “Buyerpress”

بتاريخ 1/6/2017

التعليقات مغلقة.