“التفاحة الأخيرة”.. قصة مسيحي ومسلمة هربا من الحرب ليتعرَّفا على دينهما
وكالات- Buyerpress
تبدأ جمعيات حقوق الإنسان، وهيئة الأمم المتحدة في حصر أعداد الضحايا والمفقودين، وعقد معاهدات السلام، إن استطاعت، ثم يأتي دور المؤرخين؛ يسجلون أسماء قادة الحروب وأسبابها، والدول التي شاركت، وينتهي كل شيء، دون أن ينتبه هؤلاء إلى ضحايا الحرب الحقيقيين، تعساء الحظ الذين ظلوا أحياء.
الجلاد والضحية وجه واحد لعملة واحدة، هي الحرب والدمار، الدائرة المغلقة التي نعيش بداخلها، ولا نفعل شيئاً، سوى أن نتبادل الأدوار. هذا ما تحدثنا عنه الكاتبة «سونيا بوماد» في رواية التفاحة الأخيرة، الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب عام 2015.
تبدأ أحداث الرواية بإحدى المذابح التى نفذتها فرقة الإعدام الصربية في مدينة “سربرنتسا” التابعة للبوسنة عام 1995، بأحد المخابئ؛ فيطلق «إيفان»، أحد أعضاء فرقة الإعدام، النيران على كل من كانوا هناك بالكامل، فيما عدا «نوريستا»، الفتاة ذات 14عاماً؛ ليتركها حية، تشهد عائلتها تفارق الحياة، وتغمض عيونهم بكفيها الضعيفتين.
يعود «إيفان» إلى المخبأ مرة أخرى، يصطحب «نوريستا» هارباً بها خارج البلاد، مخلفاً وراءه ويلات الحرب؛ حتى يستقر بها في منزل تعود ملكيته إلى جده لأمه.
وتبدأ تفاصيل الرواية، التي جاءت بأسلوب سرد متبادل بين كل من «إيفان و نوريستا»، يرصد حياة كل منهما قبل أن يلتقيا، وحياتهما بعد اللقاء بين جدران هذا المنزل.
كان من الممكن أن يهرب «إيفان» بمفرده؛ متجنباً عديداً من المخاطر، التي يواجهها بصحبة الفتاة، لكنه عاد يصطحب جريمته؛ ليؤكد لنفسه أن الهروب من الحرب، لا يعني الهروب من الجريمة، ولكي يصرخ عبر ضحيته أنه هو الآخر ضحية، نعم، أليس «إيفان» الطفل صاحب 14 عاماً، الذي شاهد مذبحة عائلته من قبل الميليشيات التي شنت الحرب على صرب البوسنة سابقاً ضحية؟
هذا الطفل الذي حفر بمخالبه الضعيفة قبوراً ليدفن بيديه أفراد عائلته، في حديقة منزل يحمل أحلامه البريئة، التي لم تتعدَ حدودها بعد سماء تلك الحديقة. نعم هو ضحية اتخذت نفس طريق جلادها، حين شارك بإرادته في الحرب على البوسنة؛ ظناً منه أنه يأخذ بثأر عائلته، وقد كانت «نوريستا» بقايا هذا الثأر، الذي لم يستطع التخلص من آثاره، حتى آخر يوم في حياته.
أما «نوريستا»، تلك الفتاة الصغيرة، فتحت لنا حياتها في هذا المنزل، عديداً من القضايا؛ فقد تعرضت للضرب والاغتصاب في هذا المنزل، لتعبر من خلالها الكاتبة عن عديد من النساء اللاتي استبيحت أجسادهن، وكن ساحات لحرب أخرى، وهي شهوات مجرمي الحروب.
عبرت «نوريستا» عن الكثيرين، نشأوا في عائلات لا تعرف عن الدين سوى التعصب والتشدد، الذي يخلق في النفوس عبادة الله خوفاً لا محبة، وكره الآخر؛ لمجرد الاختلاف في الانتماء العرقي والديني، والمذهبي. وعبرت عن تلك العيون، التي شاهدت ويلات الحرب حتى النهاية، وحاولت استكمال الحياة ومعايشتها مرة أخرى.
«إيفان»، مسيحي الديانة، تعود أصوله إلى عائلة عريقة، و«نوريستا»، فتاة مسلمة نشأت في أسرة بسيطة، مترابطة شكلياً، لكن في واقع الأمر لم تجمعهما الألفة يوماً. جمعتهما الكاتبة في منزل واحد، لا لنرى فيها صورة الجلاد والضحية فقط مجتمعين، ونرى مزيداً من التعذيب والقهر؛ بل ليرى كل منا ما يعتقده عن دين الآخر، من معتقدات وأفكار خاطئة، تسببت في زرع بذور الفتنة داخلنا كل بطريقته، من خلال سرد كل منهما لتجربته وحياته وأفكاره عن انتماء الآخر.
واستطاعت الكاتبة أن تتخطى تلك المعتقدات، بل تجعلها تتلاشى في تلك اللحظة التي تنتصر فيها إنسانيتنا. تلك اللحظة بين «إيفان ونوريستا» كانت ميلاد طفليهما، الذي نبتت بذوره في رحمها من الاغتصاب والإهانة. وبالرغم من ذلك، راهنت «نوريستا» على إنسانية «إيفان» التي من الممكن أن تنسيه أحقاده، في تلك اللحظة.
لم يتردد «إيفان» بالفعل في مساعدتها؛ منتصراً بذلك لإنسانيته، واصفاً تلك اللحظة بقوله “لأول مرة تدوس إنسانيتي على حقدي وقوميتي وجذوري وديني وأصولي، فهي تنازع بين يدي.. سأحاول المستحيل من أجلها”.
وبالرغم من سرعة فقدانهما لهذا الطفل، جاءت الكاتبة بتلك اللحظة؛ كي تناشد من خلالها العالم، ليتخلص من أحقاده وانتماءاته المتعصبة، وأن يقف احتراماً للحق في الحياة بعيداً عن أي انتماء عرقي أو مذهبي.
لم تهتم الكاتبة بجذب تعاطف القارئ مع أي من أبطال الرواية، فقد اكتفت بسرد كل منهما لتجربته والحكم للقارئ، وجاءت بعدد محدود من الأبطال، ولم تركز سوى على التجربة الشخصية لكل منهما، تلك التجارب التي وحدت بينهما؛ فقد تعرض كل منهما للظلم بصورة مختلفة، خلقت منهما قلوباً تلتمس العذر للآخر، وتترفع عن إطلاق الأحكام على الآخرين.
من أهم أبطال الرواية، بطل من نوع خاص ومختلف، إنه المنزل الذي جمع بين «إيفان ونوريستا»، وتعود ملكيته لرجل مسيحي، وهو منزل قديم في تصميمه وأثاثه؛ ليأتي المنزل كناية عن إنسانيتنا وحضارتنا العريقة، التي لو نظرنا إليها ولو للحظة؛ فسنستطيع التعايش مع الآخر، واحترامه مهما كانت الظروف.
ومن أهم معالم رقي هذا المنزل مكتبة، احتضنت آلاف الكتب في العلوم والفنون والديانات، وتعرفت «نوريستا» من خلالها على دينها، بصورة أخرى أكثر تسامحاً؛ فالإيمان الصادق لابد أن يبدأ من العقل والعلم.
لم تعانِ «نوريستا» من عذاب بين جدران هذا المنزل، بقدر إحساسها بالحسرة والألم، حين قرر «إيفان» حرمانها تلك المكتبة؛ لتبكي نوريستا للمرة الأولى دموعاً لم تداهمها حين ذُبح أفراد عائلتها أمام عينيها، فتصف لنا الكاتبة من خلال هذا المشهد حسرات الشعوب التي وقفت عاجزة، تشاهد جرائم هدم الحضارة وحرق الكتب، التي تعتبر أشد صعوبة من فقدان النفوس، والعداء الدائم لمجرمي الحرب للثقافة ومظاهر العلم والتحضر.
تنتهي أحداث الرواية حين تترك «نوريستا» المنزل لأول مرة، بعد أن قضت بين جدرانه 15 عاماً، تعلمت كثيراً، وأحبت «إيفان»! لكنها في النهاية كانت طول الوقت بلا إرادة أو اختيار؛ خرجت للعالم لتفاجأ بأن الحروب لم ولن تنتهي، فسماسرة الحروب أحياء، وتجار الدين، لكن بأقنعة وأساليب مختلفة؛ فتكشف الكاتبة الستار عن المراكز الدينية، التي تعمل لصالح مافيا الاتجار بالشباب، لتجنيدهم وإلقائهم في ويلات الحروب، التي لم ولن تنتهي فى أرض أخرى.
ينتحر «إيفان» بعد أن كفر عن جريمته بكل الطرق، نفسياً وجسدياً؛ لكنه لم يستطع أن يتخلص من ضميره أبداً، ورائحة الدم التي ظلت تطارده، حتى بعد انتهاء الحرب، وإبرام معاهدات السلام. تُتهم نوريستا بقتله، وتلتقي إحدى الحقوقيات في أثناء محاكمتها؛ فتطالبها بأن تكتب حكايتها للنشر، لكسب التعاطف، ولفت انتباه العالم لمأساة النساء خلال الحرب وما بعدها.
استطاعت «نوريستا» أن تحصل على حريتها بالعدالة، وبمساعدة كثيرين لا تعرف عنهم شيئاً، وليس هناك رابط يجمعهم، سوى الإنسانية، تفاحتنا الأخيرة التي يجب أن لا يصيبها العطب أبداً؛ ليظل هناك أمل في سلام على هذه الأرض، فالإنسانية بكل معانيها الرحيمة هي الانتماء الحق والدين الحقيقي.
التعليقات مغلقة.