امرأة شابة تحطم استقرارها الأسري لتهرب مع شاب

121

_106243_bb4صحيفةالعرب- Buyerpress

أربع وعشرون ساعة هي تعاقب الساعات التي تكوِّن الوقت الذي نعيش بين نهار وليل، لكنها تغدو عمرا طويلا عند الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ في روايته “أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة”. في هذا العمل يدخل زفايغ أكثر المواضع ظلمة في النفس البشرية، تلك الجغرافيا التي تحكمها الشهوةُ واللاتعقّل، قصة نزلاء من طبقة أرستقراطية في فندق صغير بمنطقة الريفييرا الفرنسية، عائلات عديدة تتنافس في ما بينها بإظهار الترف، يتوسّطها شابٌّ وحيد حاز لحظة دخوله على إعجاب الجميع.

ذلك الشاب يمتاز بوسامة ودماثة عاليتين، يقضي ساعات وجوده بملاطفة الآخرين، قبل أن يستفيق النزلاء على خبر هروب امرأة متزوجة وأمٌّ لطفلتين معه إلى المجهول، فتبدأ التأويلات من الجميع، تحليلا وتركيبا في إعادة قراءة للمشهد، تلك المشهدية يقدِّمها زفايغ بلسانه الراوي باعتباره شاهدا على ما حدث فيسير السرد بعذوبة ساحرة وعاطفة متدفقة تصل إلى حد قبول ما حدث باعتباره أمرا طبيعيا، أو كان لازم الحدوث في لحظة ما.

قصة الرواية، الصادرة منذ أيام عن دار مسكلياني للنشر في تونس ودار مسعى، بترجمة الأسعد بن حسين ومراجعة وتحرير أحمد شاكر بن ضية، تبدأ بعتبة تم اختيارها بعناية فائقة من قبل الكاتب، فهذه الرواية تبدأ في فندق منسيٍّ صغير في إشارة إلى عدم الالتزام بذاكرة مع جغرافيا المكان، فالجغرافيا السردية عند زفايغ في هذه الرواية غير ثابتة تاريخيا مع أبطال الحكاية وغير متقاطعة معهم في الوقت ذاته. هذا التأويل يحيلنا إلى روايته “لاعب الشطرنج” التي اختار مسرحها زفايغ على متن باخرة مسافرة من نيويورك الأميركية إلى بيونس آيرس الأرجنتينية، فأهمية المكان تبرز في عدم ارتباط الأبطال فيه باعتبارهم جزءا منه، إنهم عابرون به لا أكثر.

إذًا امرأة شابة تطيح باستقرارها الأُسري لتهرب مع شاب تتعرف عليه خلال وقت قصير، فالراوي الموجود في الفضاء ذاته الذي جرت به الحكاية لا يتابع خيوط هروبها، وإنما يلتفت إلى تقديم رؤى الآخرين وآرائهم حول فكرة هروبها مع ذلك الشاب، هو الذي ينحاز بدوره إلى تبرير فعلتِها من مُنطَلَق حقِّها في الاختيار، وموقفه هذا يكون دافعاً لتحويله إلى ميناء ترسو فيه ذاكرة امرأة قاربت السابعة والستين من عمرها.

هذه المرأة تتخذ خطوة نحو الراوي من خلال رسائل قصيرة تتركها له معلنة رغبتها في الكشف عن أربع وعشرين ساعة من عمرها، فتعود بالذاكرة إلى شبابها بعد أن مات زوجها الذي ارتبطت به بعاطفة قوية، فراغ حياتها بعد رحيل الشريك دفع بها إلى الرغبة في اكتشاف المدن فكان السفر حليفها، ومن هذه النقطة تنطلق في سرد أخَّاذ على لسان الراوي.

لقد نسج زفايغ من قصة المرأة الأخرى نظيرا للمرأة الهاربة، وفعل التناظر هنا لم يأت من قبيل التطابق أو تبرير فعل الخيانة وإنما لكشف جوانب دفينة في نفسية الأنثى وارتكانها إلى العاطفة، وبذلك تقوم الرواية على قُطبَين أساسيين، امرأة هاربة وأخرى مستكينة إلى سنواتها التي قاربت السبعة عقود وتريد أن تتخلص من ذاكرة أتعبها حملها، فالفعل الفضائحي الذي قامت به الأولى- من وجهة نظر النزلاء طبعا في الحكاية- كان حافزاً للثانية كي تبوح.

تبدأ قصة المرأة الثانية من مونتكارلو الفرنسية حيث كانت تقضي إجازة باعتبارها لجأت إلى السفر كونَهُ العالم المليء بالاكتشاف لملء فراغ وحدتها، هناك بدأت ترتاد أماكن القمار لتراقب عن قرب وبُعد معا تلك المشاعر وردود الأفعال التي يمتاز بها المقامرون. هذه العملية في التلصص تقوم على مراقبة الأيدي التي تنهالُ على طاولات اللعب وليس على العيون، فارتعاش الأيدي وتحفُّزها هما ما يحمل القصة الكاملة لكل مقامر، تقع خلال مراقبتها تلك في دائرة حكاية أخرى، ينطلق منها زفايغ إنسانياً لتتورط البطلة الثانية خلال الأربع والعشرين ساعة التالية بحب الشاب المقامر الذي يأخذنا الراوي في حكايته المنفصلة جغرافيا ومكانيا عن الجميع.

الشاب ابنٌ لعائلة شديدة المحافظة وميسورة الحال، يستدل مصادفة إلى طريق الربح السريع في أروقة نوادي القمار فيغرق في لذة الربح التي لا تدوم طويلا قبل أن يبدأ مسلسل انهياراته المتتابعة، فيكون اللقاء بين الشاب والمرأة على ضفة نهر بعد أن تتَّبع خطواته بغية إنقاذه من فكرة الانتحار التي لاحظَت أنها تراوده بعد خسارته تلك الليلة. في الرواية لا يقدِّم السارد تبريرا لهذا الفعل إطلاقا سوى فكرة الإنسانية التي تسعى لها المرأة لإنقاذ شاب عشريني يبدأ أولى خطوات حياته بطريقة خاطئة.

تتوالى الساعات الأربع والعشرون لتجد نفسها تتورط بحبِّه فتحاول إعادته إلى العاصمة النمساوية فيينا، مسقط رأسه، بعد أن تمنحه المال الكافي لتذكرة القطار يجد الشاب الذي أقسم التوبة عن القمار في مذبح الكنيسة، نفسَه أمام مواجهة حقيقية مع المال فيتبع هواه قافلا إلى رصيف المقامرة حيث تحدث المواجهة مع المرأة التي تتركه وتمضي لتعلم بعد ذلك بسنوات أنَّ هناك شابا نمساويا يافعا وُجِدَ مُنتحرا في مونتكارلو الفرنسية.

المشترك بين شخصيتي المرأتين اللتين قدمهما زفايغ هو فكرة الشغف الذي قد يستحوذ في لحظة ما على عقل وقلب المرأة فيطيح باستقرارها.

لكِلَا الشخصيتين ما يبرر الفعل من وجهة الطَرح المُبَرمَج أساسا لتقديم نموذَجَين مُختَلفين في عالم يتسارع سنة بعد أخرى، فضلا عن حصر الحادثتَين بزمان قصير امتد على أربع وعشرين ساعة فقط من حياة امرأتين، عاشت كل منهما ظروفا ودوافع خاصة في الفعل ورد الفعل.

يستأنس ستيفان زفايغ إلى هذه اللعبة الروائية في سردياته المترجمة إلى العربية، ففكرة عدم توقع فعل الشخصية طاغية لدى خطوط السرد عنده، ورغم التخبُّط الحاصل نفسيا في تكوين تلك الشخصيات المحورية التي يقدمها، إلا أنَّ هناك مكانا وفسحة ما للاستقرار يطرحهما الراوي بتحايل على المجتمع وفقَ دوائر سردية متعددة مبنية على آلية التناظر، فهو يقسم الشخصية التي يقدمها إلى نصفين كل منهما يقدم جزءا من الحكاية، تتطابق في مواقف وتتناقض في مواقف أخرى تماما.

التعليقات مغلقة.