شينێ.. Şînê
وحشة .. زاوية يكتبها طه خليل
كان إذ يتزوج شاب من القرية، يرسل أهله بطاقة دعوة للمعارف والجوار لحضور حفلة الزفاف، بطاقات كانت بكليشيهات مكرّرة مفادها: فلان الفلاني وفلان الفلاني يدعوانكم لحضور شيرانية وزفاف ولده فلان وكريمته فلانة وذلك في قرية … الساعة .. من يوم الخميس مثلا، وأسفل البطاقة “لا زالت الأفراح بدياركم عامرة ” وعلى غلافها باقة ورد أو صورة لشاب شمعي وصبية تشبه باربي يضحكان معا، وكنا نعتقد أن الحياة بين العروس والعريس ستستمر على تلك الشاكلة، بيديهما ورودا ويبتسمان، إلا أننا أدركنا فيما بعد أن العروس في اليوم الثامن من زواجها تذهب لِجرّ المحراث حين يمرض أحد البغلين، في حين يعود العريس لسقي القطن في قيظ آب، ويعود مساء موحِلاً يتصبّب عرقا ليتمدّد لصق عروس أنهكها جرّ المحراث وعلا شخيرها، فيقضي حاجته وهي نائمة.
كان المدعوون للعرس يتفاوضون ويتناقشون أياما، وبعد مفاوضات شكلية، متفق عليها مسبقا، كمفاوضات أستانه، تتفق كل عائلتين أو ثلاث ـ حسب الحالة المادية ـ لاستئجار سيارة ” نايلون ” للسير في موكب العروس، وإحضارها من القرية المجاورة، كانت سيارات النايلون تتسابق وتطلق زماميرها على الآخر، وتشق غبار القرى، حتى تخيم على قريتي العروس والعريس غيمة من غبار، سيارات تكسي من موديلات مختلفة وأحجام متعددة، مرسيدس، ديسوتو، كابريس، بويك، شفروليه، سيارات من حقبة الخمسينات، وكان لعدد السيارات وكثرتها معنى، فكلما كثرت سيارات موكب الزفاف وعلا غبارها وزماميرها، كلما ظهرت حظوة العريس ومكانة أهله في المجتمع، وكان القرويون يقارنون لسنوات بين عرس فلان وفلان، ” في عرس فلان حضرت اكثر من ثلاثين سيارة، في حين لم يتعدى عرس آخر خمس سيارت، كانت السيارات المستأجرة تجلب من قامشلى، وكان سائقوها مميزون بقمصانهم النص كم، وشواربهم المفتولة، وبناطيلهم ” الشلستو ” فكانوا حين يحضرون العروس، يتجمعون في ظل حائط ينتظرون نصيبهم من الطعام الذي كان عبارة عن مرق وثرود لحم الضأن، تعلوها طبقة من غبار السيارات، وأخرى من الشحم الذي برد، السائقون وهم ينتظرون ثرودهم في الظل كانوا يغازلون فتيات القرية العجولات في سيرهن بين هذه الغرفة وتلك دونما سبب ظاهر، فقط للفت أنظار المدعويين وعلى رأسهم سائق سيارة الديسوتو الزرقاء المجنحة، “رياضو” ذو العينين الزرقاوين، والقميص الضيق المفتوح الأزرار على الدوام، وكان شعر صدره مصدر فخر له، كذقن محمد علوش سائق الثورة السورية لدى أردوغان.
كانت الديسوتو المجنحة ذات اللونين الابيض والازرق هي سيارتي المفضلة، حين كان المدعوون يلتهمون الثرود، والسائقون يغازلون الصبايا، والأطفال ينتظرون الكبار ليقوموا عن الأكل فيتناوبوا هم على ما تبقى في الصحون، كنت وحيدا اقترب من نايلونتي الزرقاء، وأمد إليها سبابتي لأكتب اسمي على غبارها، وأقول سيصل اسمى الى قامشلى.
ومضت سنوات.. سنوات كثيرة كخرير ماء من تحت جسر، أكثر من ثلاثين سنة مضت وانقرضت سيارات النايلون، إلا المجنحة كنت أراها بين الحين والآخر لدى أبوسيفان الأرمني، وبعد مفاوضات وتحضيرات اشتريتها، وهي عندي اليوم، يسخر مني الآخرون: ” ماذا تفعل بهذه الخردة.؟ ” الآخرون لا يعلمون أنها اليوم” شينێ” والآخرون لا يعلمون أنني بعد خمس وثلاثين سنة، حين أحضرت ” شينێ ” إلى البيت لفت انتباهي أن كل أمطار الفصول ووحشتها، وكل مياه المغاسل، وكل وحشة الرياح، والدهانين وعمليات التصويج لم تستطع أن تزيل اسما كتبته بسبابتي على غبارها، ولا يعلم الآخرون أن لـ ” شينێ ” عيونا تضيء روجآفا إذ أمرّ بها أو تمرّ بي.. ” شينێ” تشبهك فأقول لها ” سبها ته بخير” إن فاتني صباحك.
نشرت هذه المادة في العدد 58 من صحيفة “Buyerpress”
بتاريخ 1/2/2017
التعليقات مغلقة.