صراع إرادتين
منير شيخي
فشل الاستراتيجية التركية وبزوغ دور استراتيجي للكرد في المنطقة:
في اليوم الأول من تسلم السلطان صلاح الدين الأيوبي للوزارة في مصر، خرج جموع المصريين في كل المدن للساحات والشوارع، مرددين بملء حناجرهم:(عسى أن يكون هذا الكردي أرحم علينا من حكامنا العرب)، لما ذاقوه لعقود من ظلم وجور على يدّ شاور وزمرته. وهو نفسه ما كان يردده عموم أهل الشدادة وكري سبي (تل أبيض) ومنبج والرقة المرحبين بالمحررين الكرد الجدد، الذين لبّوا نداء واستغاثات أهلها ليحرروهم من جور واستعباد ذوي القربى.
هذا الانبعاث الجديد للروح الكردية السمحاء، التي ميّزت الشخصية الكردية عبر التاريخ، والتي حافظت على مكانة لائقة لهم في الوعي الجمعي لكل شعوب المنطقة، أدخلت الأنظمة الحاكمة في المنطقة واستراتيجياتها في تخبّط شديد. وبالأخصّ النظام التركي الجديد والاستراتيجية التي اعتمدها في تعاطيه مع قضايا شعوب المنطقة.
فبعد ما سمّي بثورات الربيع العربي، استغلت الدولة التركية بزعامة العدالة والتنمية، هشاشة الحالة العربية الناتجة من ضمور وتقهقر في الرؤى الاستراتيجية لدى الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ونكوص الأفكار القومية وتمسّخها في دول قومية وعشائرية ومذهبية، كما في العراق وسوريا ومصر، مع انعدام كلّي لإمكانية حدوث أي تحوّل حقيقي وجاد في البنية الفكرية والسياسية والعقائدية للشعوب من خلال دور ريادي للطبقة المتنورة والمثقفة لتشكيل رؤية ناضجة لإنقاذ مجتمعاتهم وتفاعلهم واندماجهم مع روح العصر.
في هذه المساحة الرحبة والخاملة، بدأ النظام التركي يؤسس لنفسه استراتيجية جديدة ليكون البديل الطبيعي لطموح شعوب المنطقة في العدالة والتنمية ببراغماتية شديدة الحساسية ومحكمة بعناية.
الرؤية التركية الجديدة كانت تنهل من الإرث العثماني القديم من جهة، ومن المدرسة الإخوانية السنية الوافدة من مصر بكل تعاليمها ومصادرها وتجربتها من جهة أخرى.
وذلك بتأسيس حزب العدالة والتنمية الذي اتخذ شعار الاستدارة هذا نحو الشرق الإسلامي، والابتعاد عن الغرب المسيحي، وفيما سمّي لاحقا “بسياسة صفر مشاكل مع دول الجوار، وهذا التوغل التركي في الساحة الشرق أوسطية مهّد له الساسة الأتراك أرضية اقتصادية وثقافية جيدة، من خلال فتح أبواب الأسواق والمجتمعات العربية للصناعات التركية، سواء الدرامية منها أو الصغيرة والتقليدية الإستهلاكية على غفلة من حكامها مما أدخلت الأسواق في ركود شديد وبالأخص السورية منها والعراقية.
هذه الأرضية الملائمة جعلت شعوب المنطقة مغرمة بالنموذج التركي، خصوصاً بكونه يمثل بحسب فهمهم قراءة معاصرة ووسطية للدين الإسلامي الحنيف، ونموذجا” اقتصاديا” وثقافيا” يمكن الاتكاء عليه والوثوق به.
ومع ثورات ربيع الشعوب، والتي عصفت بالمنطقة من تونس لليبيا فمصر واليمن وصولا لسورية، والتي كانت كحالة سياسية وتاريخية مختلفة كلياً عن كل ما سبقها، بسبب المكانة الجيوسياسية والاستراتيجية الهامّة والحرجة لسورية من جهة، ولكونها الأرض الخصبة والتاريخية لجذر الصراع المذهبي العميق بين السنة والشيعة من جهة أخرى.
مما أدخلت الثورة السورية في نفق مظلم وصراع مذهبي مقيت.
والأتراك الذي علقوا رواد النهضة العربية في أيار 1916، الذين ناهضوا الفكر العثماني في مرجة، والتي لا تبعد سوى أمتار معدودة عن ساحة الجامع الأموي، التي وعد أردوغان بها السوريين بأنّه سيصلي بأهل دمشق وما حولها إماماً، بحلول أول صلاة للعيد، ليحوّل العيد لعيدين بإسقاط طاغية دمشق، ممّا أغرق سوريا وكل المنطقة في جحيم حرب طاحنة وشرسة وحوّلها لبحور من الدماء للحد الذي لا يبدو أفق الحل فيها واضحا في المدى المنظور على أقل تقدير.
في الطرف الآخر، والنقيض تماما برز الكرد في روجآفاي كردستان في شمال سوريا كشخصية تتكئ على ميراث عقود من المقاومة وقدر فائق من التنظيم، معتمدين على تجربة أشقائهم في الأجزاء الأخرى من كردستان، ومستفيدين من إرثهم الفكري والتنظيمي وحتّى العسكري متخذين طريقاً ثالثاً في الأزمة السورية خصوصا بعد ثورة 19 تموز في كوباني2012، والتي أخرجت النظام السوري من المناطق الكردية وبدأ يتشكل في مناطق تواجدهم بالمشاركة مع كل مكونات المنطقة إدارات ذاتية تشبه الحكم الذاتي بأقرب صورة، وبعد معركة كوباني والمقاومة المذهلة التي جسدتها شابات وشباب الكرد ال YPG , YPJ، في محاربة إرهاب داعش وقدرتهم بإلحاق الهزائم المتتالية به في كل المعارك التي تواجهوا فيها معهم. فبدأت الإدارة الذاتية الديمقراطية تطرح مشروعاً عصرياً ينسجم مع الواقع السوري ويقدم حلولا عملية لكل المشاكل التي تعاني منها سوريا وشعوبها، وهو طرح الفيدرالية الديمقراطية كحل أمثل للواقع السوري.
هذا التضاد في الاستراتيجية التركية في سوريا، والدور الذي يجسده الكرد في المعادلة السورية خصوصاً بعد أن تبين مدى الارتباط الوثيق بين تركيا وداعش، ومدى المقاومة الشرسة التي يبديها الكرد ضد داعش، إن الأتراك أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الخروج من المعادلة السورية وهم صاغرين، ودخول الطرف الكردي بما يملك من احترام عالمي بين الشعوب أولاً وأخيراً كطرف موثوق به في محاربة داعش ومد جسور التعارف والمحبة بين مكونات المجتمع السوري عامة.
حتّى أصبح جلياً أنّ تركيا بسياستها التوسعية الفاشلة بدأ دورها يتقهقر، مما سينحسر لاحقاً ضمن حدودها السياسية فقط، ويبرز اهتماما جيداً باللاعب الكردي كقوة يمكن أن يدخل استراتيجيات الدول العظمى في المنطقة من أعظم أبوابها ليس بفضل أو تزكية أي قوة بقدر ما جسده الكرد من بسالة وبراعة في محاربة الإرهاب وتحرير الشعوب منها.
فارتباط الكرد بالذاكرة الجمعية لشعوب المنطقة تاريخياً، وفي الوقت الراهن بكونهم محررين، في الوقت الذي ارتبط الأتراك في ذاكرة كل الشعوب بكونهم قوات احتلال سواء في دابق بالأمس أو في جرابلس ومنطقة شهباء اليوم، يؤكد إفول النجم التركي وبزوغ الفجر الكردي على شعوب المنطقة من خلال الأصفر الكردي، سواءً أكان الأصفر الذي ميّز سابقا علم الإمبراطورية الميدية أو ذلك الذي حرر القدس بعهد الإمارة الأيوبية أو الأصفر الذي يخفق عالياً اليوم في كل المناطق التي يحررها أصفرYPGوQSD ، الأصفر الكردي الذي لا يمثل في كل تجلياته الرمزية تلك سوى الشمس.
نشرت هذه المقالة في العدد 55 من صحيفة “Buyerpress”
بتاريخ 15/12/2016
التعليقات مغلقة.