سبها ته بخير

144
14961521_1449506051730903_2057526577_n-1
طه خليل

طه خليل

عندما استعادَ الإسبانُ بلادهم من الاستعمارِ الإسلامي وكان آخرُ ملوكِ ” الأندلس ” وقتها أبوعبدالله الصغير، فجزع لخسارةِ ” غرناطة آخر ممالكهم ” وبكى، وحين رأتهُ أمّه قالتْ له جملةً ما زالتْ تفعلُ فعلَها، اذْ قالتْ له مؤنّبةً: ” ابكِ كالنساءْ على ملْكٍ لم تحافظ عليه كالرجال.”

واليوم اذْ أقفُ وحيدا، وأعزل، أمام العتمة، أتذكّرُ تلك الجملةَ، ولكنّي لا أقدرُ أن أبكي، وحدَها المرارةُ تجفُّ في الحلق، وتجفُّ الكلماتُ، والإشارات، والرسائل، وتجفّ السماء الخضراء بكلِّ أشجارِها، ونجومِها وغيومِها الحديديّة، أرقدُ مُلتفّا على نفسي كسلوقي انكسرت رجلَهُ، او بُترت في أوان الصيد، فيمرّ به الصيادون وكلابُهم ولا يلتفتون إليه، لتجفّ الدمعةُ في حلق السلوقي الكظيم.

وقفَت أمامك، واقتربَت، اقتربَت حتّى كدْت تسمعُ هسيس اليخضور في وريقاتها، ولكنّك لم تسمع شيئاً، فقط رأيْت ورقاً، ووريقات هناك، وحين حدّقت في عينيْها، كانتا مطفأتين تماماً، حينها عرفْت أنّك ابتعدت كثيراً، وتركتْها للشمس تجفّ، وتأخذ منه بريق الحبّ، وتركْت تلك المياه والسيول تمرّ بينكما، لم تتنبّه، أنّ مياه كثيرة مرّت من تحت الجسر، حين تركت الجسر لعتمة الوحشة.

لقد حاولت ترميم قلعتك قبل هذه المرّة، وكانت القلعة طيّعة، تسامح آنذاك، وتنتظر الريح لترمي عليه شال الموصل مخضّباً بحنّاءِ الشوق، ولذّة اللقاءِ الأوّل، والموت الأوّل، واللمسة الأولى بين بتلة الياسمين، وجنح فراشة غضّ، كنت تقترب كلما ابتعدت، وتبتعد بقدر ما تقترب، حتّى آن أوان النضج لحبّة التوت تحت قيظ الحيرة، والخوف والقلق، تقلقك كل روج آفا اذا تقترب من شجيرتك، ويتتبعك أيل الخسة، أينما توجّهت، يعدّ عليك أنفاسك، وخطواتك، وعدد ” برمات ” دواليب سيارتك على الطريق السريع، فتختار الليل، وتختار مصاحبة الطيور، وتهرب نحو طفولتك، تذكّرك بالآشورية، فتحسّ بطعم العنب الخابوري مرّا على الحليمات، وتأخذك إلى الألب، الألب الذي لم يعجبك فصلا من فصوله المتشابهة، وأدهشَك كيف يعد أهل الألب طيورهم على البحيرات، وغزلانهم على القمم، وكراكيهم على الضفاف، وقطاراتهم على سكك الآخرين، وقطارك كان دائم الحنين إلى تربة القرى، المرميّة على مدى النظر على بقعة من أرض كردستان.

لم يعد يعجبني أن أعترف بخطأ لم أرتكبه، ولا أودّ بعد اليوم أن أعتذر لشيء لم أفعله، ولم يعد يعجبني أن أبدأ بالخطوة الأولى للوصول إلى المعبد.. على المعبد أن يلتفت لعبده مرّة، ويعتذر مرّة ويخطو الخطوة مرّة، وأنا كراكب غريب لم يعد يعجبني شيء في الطريق.

ها قد مرّ الوقت، الوقت الذي احتاجته سيدة الينابيع، ولم تصل إلى رذاذا يبلّل حلق السلوقي الذي جفّ من البكاء.

  لم يخطر ببال أحد منّا أن يقول للآخر ” سبها ته بخير ” مثلا.. وتلك كانت فاتحة النهار، وكانت تبدد وحشة اليوم كلّها، سبها ته بخير أيّتها القطا، أيّتها الحجل، أيّتها الدروب، هي وحشة الأحمق كما يبدو، يرتكب ما لم يخطر ببال الباب المغلق والمصباح المطفأ، مصباح كعين جافة.. وحشة الغياب الذي يؤكد حضوره الطاغي كل يوم.. ويرعبني أن يجيء يوم يستمرّ الغياب في غيابه.. ولا يعطي للحضور مكانا…. وسبهاته بخير.

نشرت هذه المقالة في العدد 53 من صحيفة “Buyerpress”

1/11/2016

14937851_1448361381845370_1278411742_n

التعليقات مغلقة.