الأكراد.. أرشيف خاص لمشاعر الدولة

28
لوغو صور أصلي مصغر
حامد الكيلاني

الانطباع الأول عادة ما يكون قطافا نهائيا، لكن اليقين لا يتحقق إلا بعد معرفة وتدقيق ومعايشة ومجموعة تجارب تؤدي إلى استقرار التشخيص دون الضياع في التفاصيل التي تستغرق زمناً، لنعود إلى ذلك الانطباع الذي تشكل منذ البداية.

في ضيافة إحدى المؤسسات الثقافية في مدينة السليمانية من إقليم كردستان العراق، قضيت ثلاثة أيام اطّلعتُ فيها على أسباب مقنعة من وجهة نظري لقيام الدولة الكردية وانفصال الإقليم عن المركز في بغداد عندما تكتمل اشتراطات الحياة واستمرارها للجنين المتكون في ظروف غير صحية محيطة به؛ الرعاية الخاصة من حاضنة الأم واضح جدا أنها في الطريق إلى أن تضع حملها وتتحمل مسؤولية بقائه على قيد الحياة.

ما رأيته هو نواة لكل تأسيس منظم يقوم على بناء القواعد السليمة وتثبيت الجذور ليكون قادرا على النمو والتكامل، وخاصة البنى المعرفية والتاريخية اللازمة لكيان دولة كثرت في دروبها المطبات ولم تتوفر لها التوافقات الدولية والإقليمية رغم عقود من المعاناة والصراعات المسلحة الموزعة على جغرافيا أربع دول بعد خرائط التقسيم على ضوء نتائج الحرب العالمية الأولى وانحسار الدولة العثمانية إلى حدود تركيا الحالية.

كنت دائما أؤمن بأن من يبحث عن أرشيفه الخاص، فردا كان أم أسرة أو مجموعة صغيرة أو كبيرة العدد، إنما يسعى إلى التواصل والاستمرار لما بعد وجوده الجسدي، في إنتاج مميزات نوعه ودالته دون انقطاع أو تشرذم؛ المنظومات تتعلق بالروافد الصغيرة مهما كانت، فبمجموعها تتشكل حتما القوة المطلوبة صاحبة العنوان الصريح الواضح.

الدولة الكردية قادمة وهناك جهد مؤسساتي لإنشاء المتاحف المتنوعة لتاريخهم، يستجمعون نثار ما كتب عنهم من قبل المؤرخين أو المستشرقين الذين تناولوا زياراتهم ودونوا مشاهداتهم وأوصافهم لطبيعة الحياة الكردية، من أزياء أو بيئة وطبائع ولغة وطعام وحياة اجتماعية.

تمت إعادة طباعة كل الإصدارات القديمة من دوريات أو صحف تناولت الشأن الكردي، ومنها يوميات كفاحهم المسلح وحجم تضحياتهم، في عملية توثيق دؤوبة لوضع الملامح الشخصية للدولة القادمة.

هناك من يبحث في كل دول العالم عن كل شاردة وواردة حتى لو كانت جمل معدودة في كتاب أو جريدة عثر عليها أحدهم في المكتبات الوطنية للدول، يتم التواصل معهم باهتمام، ولهذا تجمعت لديهم الوثائق والصور النادرة والشهادات؛ ما يراد ليس فقط ما يتم الإعداد له لأغراض المحاججات في إثبات المرجعيات متعددة التوجهات.

معارض ثابتة لصور الحركات الكردية المسلحة والشخصيات المعروفة مع الشروحات باللغات الإنكليزية والفرنسية والكردية والعربية، وأيضا صور لأعلام الثقافة من كتاب وشعراء وفنانين. ما أعنيه أنهم وضعوا القواعد النفسية لإنشاء الدولة في انتظار دور السياسة، وما تقرره معطيات الواقع العراقي والإقليمي بعد معركة تحرير الموصل وما تفرزه المرحلة التالية.

التناقضات حول مستقبل الأكراد في سوريا وتركيا وإيران تحدد مسار العلاقات، وما كان يبعث على الدهشة لم يعد يثير الاهتمام، كما في ردة الفعل لنظام ملالي طهران تجاه الانقلاب في تركيا التي صدمت حكام سوريا والعراق لأنهم كانوا يعتقدون أن تصرفاتهم والتصريحات الصادرة عنهم ستنسجم مع التوجهات الإيرانية، لكنهم فوجئوا بإدانة طهران للانقلاب ولم تكتف بذلك بل أرسلت وزير خارجيتها إلى تركيا في تأكيد صريح لرفض طهران للانقلاب وموقفها المؤيد لكل الإجراءات التي حصلت بعده، بما يرسخ القناعة أن النظام في إيران يتعامل مع ظروف مماثلة بل أكثر خطرا بعد تظاهر جماهير عدد من المدن الرافضة للتدخلات الإيرانية في المنطقة والتي لا تجلب لهم إلا الويلات، ومعها تحرك القوميات العربية والتركمانية والأذرية وكذلك الكردية، وحملة إعدامات عنصرية وطائفية أقدم عليها النظام مؤخراً وما حصل من إدانات من قبل المنظمات الدولية، وهذا ليس بجديد فإيران تأتي ثانياً في تنفيذ أحكام الإعدام بمواطنيها بعد الصين، أما التغييب بالسجون أو الموت خارج الإعلام فلتلك وقائع لا يدري بها إلا من عاش في ظل قمع النظام وحرسه الثوري.

الأكراد في إيران سبب رئيس للتقارب مع تركيا، فرسم السياسات يعيد رسم توزيع السكان وفق مشكلة قديمة يمثلها الأكراد في محور التقاء الأرض التركية الإيرانية العراقية السورية، وعدسة الجميع مفتوحة على أكراد العراق الذين نالوا قسطاً من مشاعر الاستقلال في إقليم تجاوره إيران وتضغط على الأكراد داخل حدودها الغربية مع كردستان العراق، وأحياناً تتجاوز الحدود إلى حد أنها وصلت إلى تهديد حكومة إقليم كردستان مع صمت الحكومة المركزية.

من جهة الشمال ينشط أكراد تركيا وتتم ملاحقتهم إلى داخل الأراضي العراقية مع ضجيج الحكومة المركزية في العراق دفاعا عن السيادة في تناقض مدوّ مع تصرفها تجاه الخروقات الإيرانية.

من جهة سوريا ونتيجة لظروف الحرب الدائرة تدفق مئات الآلاف كلاجئين إلى الإقليم ومعظمهم من الأكراد يقطنون في معسكرات دوميز وغيرها وتحت إشراف الأمم المتحدة ومنظماتها الإغاثية ويعانون من أقسى الظروف الإنسانية بعد أن لجأ إلى الإقليم أكثر من 3 ملايين نازح عراقي من المحافظات المبتلاة بإرهاب تنظيم داعش وإرهاب ميليشيات إيران.

الانطباع الأول هو ما سنعود إليه رغم تناقضات المواقف والمصالح بين الدول الكبرى ودول الإقليم؛ فالدولة الكردية حطت رحالها الموضوعية خارج سياقات تداعيات الكفاح المسلح لأكراد تركيا وسوريا أو أكراد إيران الذين تتصاعد ثورتهم بعد يأس وانتظار بين تيار متشدد وتيار إصلاحي أوصلها إلى حمل السلاح مجددا وبضراوة مع باقي القوميات والمجموعات المضطهدة.

ما سيأتي من متغيرات سيفتح بابا لمشاكل مستجدة، لكنه أيضا سيفتح طريقا لإدخال فرق الإطفاء إلى المنطقة المشتعلة منذ سنوات.

العرب 

التعليقات مغلقة.