الإعلام الكردي: شرعنة الهُراء أو مقارعة طواحين الهواء
“على الرغم من كل خلافاتي مع إدارة إذاعة ARTA.FM إلا أنني لم أجد مسوغاً أو مبرراً لحرقها بالطريقة التي تمّت، بغض النظر عن فاعلها أو مسوغاته ومآربه، إلا أن ما يخطر للوهلة الأولى على بال كل متابع للحادثة الآنفة الذكر هو أن المغزى المباشر لحرق آرتا اف ام هو إسكات صوتها، وفرك أذنها(قرص) حتى تكون عبرة لكل وسيلة إعلامية تسوغ لها نفسها أن تكون كما كانت آرتا- كيف كانت آرتا إذاً”؟ وداعاً للإعلام الكردي”
منذ سنتين وبالتحديد في منتصف العام 2014 توصلت إلى هذه القناعة، أو ربما أقنعت نفسي بالابتعاد كلياً عن العمل الإعلامي الكردي في سوريا وحتى دول الجوار، فبعد عدة تجارب إعلامية أيقنت بيني وبين نفسي أن العمل الإعلامي الكردي لا يمكن له بأي شكلٍ من الأشكال أن يكون عملاً حرّاً ومستقلاً يعالج القضايا بموضوعية ليس فقط دون مقص الرقيب، أو حتى دون المساس بأمن وسلامة الصحفي والوسيلة الإعلامية ذاتها..
( لقد بدا ذلك مستحيلاً في نظري) في سوريا سواءً كنت في دمشق أم في روجآفا، وليس بعيداً في باشور كردستان أو باكورها- جنوبها أم شمالها- فليس ثمة ما يدعك تطلق العنان لقلمك فتنتقد تلك المؤسسة الحزبية أو ذلك الجنرال المخضرم، وأنت بذلك تحفر قبرك بيدك، أو بالأحرى تسيء إلى سمعتك التي سرعان ما تلطخ بدماء الشهداء، وبرائحة الخيانة.. هذا ليس عيباً كبيراً، فهو قضاء وقدر الشرق الأوسط برمته، وليست تلك الثقافة التي تقصي الإعلام الحر سوى سليلة الثقافات الحكومية العربية والتركية والإيرانية في هذه المناطق التي ابتلينا بها لعقودٍ طويلة..
على الرغم من كل خلافاتي مع إدارة إذاعة ARTA.FM إلا أنني لم أجد مسوغاً أو مبرراً لحرقها بالطريقة التي تمّت، بغض النظر عن فاعلها أو مسوغاته ومآربه، إلا أن ما يخطر للوهلة الأولى على بال كل متابع للحادثة الآنفة الذكر هو أن المغزى المباشر لحرق آرتا اف ام هو إسكات صوتها، وفرك أذنها(قرص) حتى تكون عبرة لكل وسيلة إعلامية تسوغ لها نفسها أن تكون كما كانت آرتا-كيف كانت آرتا إذاً؟
أنا شخصياً لم أبرّئ أحداً من هذه التهمة رغم أنني لم أتهم أحداً صراحةً، حتى أنني لم أستبعد نظرية المؤامرة التي قد تكون تستهدف جلب المزيد من الدعم المالي والتعاطف الدولي مع الإذاعة من خلال حرقها، وربما ما لاحظناه من تعاطف ومساندة لإذاعات أخرى محسوبة على الائتلاف السوري المعارض في إدلب وغيرها إشارة إلى ما سبق ذكره..
كل هذه التكهنات تبقى حبراً على ورق إلا أن هذه الحادثة لم ولن تكون الأولى من نوعها.. إعلاميون أيضاً تعرضوا للضرب والتهديد، وقنوات تعرضت للإيقاف ومراسلوها للنفي.. هنا وهناك يبقى العمل الإعلامي الكردي محفوفاً بالمخاطر وبالمحسوبيات، وأتذكر الآن أنه ومع بداية الثورة عُرضَ عليّ في دمشق أن أعمل مراسلاً ميدانياً مع قناة الميادين فسألت أحد أصدقائي الإعلامي عن رأيه وأعربت له عن عدم رضاي عن هذا العرض الذي قدم لي وعدم رغبتي في العمل مع الميادين المقربة من النظام السوري، وقد قال لي صديقي الصحفي: لا بأس بالعمل مع أي وسيلة إعلامية فأنت بالنهاية صحفي وتعمل بأجر بغض النظر عمّن تعمل معه! المهم ضحكت آنذاك وعبرت له أن هذه الفكرة إن كانت صحيحة لما كان وضع الإعلام في العالم العربي على ما هو عليه، ولما كان الصحفي يُنعت بالخائن والمرتزق والصعلوك لمجرد عمله مع هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك.. علاوةً على أن ذلك يؤثر مباشرةً على علاقاته الاجتماعية وسمعة عائلته وأسرته، ومستقبله العاطفي والاجتماعي والسياسي.. ففي المحصلة هذه الثقافة الإقصائية هي ثقافة مجتمعية وما الأحكام المطلقة النمطية إلا أحكاماً نابعة من المجتمع ومؤثرة فيه في الوقت ذاته..
ليست المسألة تشاؤماً مطلقاً، كما أنها ليست استسلاماً مطلقاً، فالأمر يعتمد على هذه الحالة أو تلك، فالعديد من الصحفيين قرّروا الاستمرار رغم العقباتِ.. أمنية كانت أم مالية أم سياسية.. البعض غيّروا الوسائل الإعلامية التي يعملون فيها، والبعض الآخر غيّر مكان عمله، والبعض واجه مصيره المجهول (هنا لا بد أن نستذكر الصحفي في قناة رووداو فرهاد حمو المعتقل لدى داعش ونتمنى له العودة سالماً إن كان لا يزال في سلام) مسألة الإقصاء ليست بعيدة كثيراً عن مسألة شرعنة بعض الصحفيين للهراء الحاصل هنا وهناك، والهراء هنا بمفهوم السخرية التي تعني اللا شيء، أو الفراغ.. أو الفوضى البنّاءة كما يراها البعض.. وهنا لا بد من التفريق بين من يتخذ الإعلام وسيلةً لكسب الرزق، أو من يضيف إلى هذه الغاية مقاصد أخرى مثل الشهرة، الصعود إلى القمة، أو بناء الخبرات والعلاقات.. أو من يراها وسيلة لإظهار الحقائق، ونصرة المظلوم، والدفاع عن حقوق المعذبين في الأرض..
فالأول لا يهمه الدور الإعلامي المنوط به والمادة التي يروج لها، إنه مهووس ومنقاد إلى راتب نهاية الشهر ولا تفارقه حاسبته التي يقارن بها ما يتقاضاه مع ما سوف يصرفه على أجار الشقة وحفاضات الطفل الرضيع.. الثاني سرعان ما ينتقل من هذه الوسيلة الإعلامية لوسيلة أخرى أكثر شهرة وأكثر لمعاناً وتقنية، والأمثلة لدينا كثيرة خاصة في القنوات الفضائية المرئية. الثالث هو دونكيشوت زمانه الذي يقارع طواحين الهواء ويعرض نفسه للشتم والضرب واللعن والسحل والسلخ والقرض والقرص والنفي والسجن والخطف والرجم الاجتماعي والسياسي..
بين هذا وذاك لكلٍ خياره كوردياً كان أم إقليمياً في العمل الإعلامي هنا وهناك، وكل وسيلةٍ إعلامية لها مميزاتها وعقباتها وحساباتها وينبغي على الإعلامي النبيه التمييز بين هذا وذاك، والنظر إلى الأمور من جميع جوانبها، والقدرة على التحليل والتمييز والمقارنة، ثم الانطلاق.. إذ ليست مشكلةً ما إذا كنت تريد أن تجرب، وقد تعود عن طريقك، لكن المشكلة هي أن تعرف أنك تغوص في مستنقع بليد وتحاول أن تمرّن نفسك على السباحة والتأقلم.. وحتى لا ننهي كلامنا بالمشكلة والمستنقع دعونا نقول: معاً من أجل إعلامٍ كرديٍّ جميل.
نشر هذا المقال في العدد (45) من صحيفة Buyerpress
تاريخ 15-6-2016
التعليقات مغلقة.