وحشة: زاوية يكتبها طه خليل (في خزنة)

63

طه

ما يقرب من الثلاث سنوات لم أر قريتي خزنة، لقد مر بها ” ثوار الائتلاف ” من كل المشارب والألوان والمسمّيات، ثوار نهبوا البيوت، وثوار سرقوا الأغنام والخرفان من الحظائر، وثوار تنقبوا وهاجموا القرى والمدنيين طلاب ثارات قديمة، فنحروا الناس كالخراف باسم الثورة ورفعة الاسلام، وثوار ذبحوا أشباه رجال لم يكن لديهم ما يتفاخرون به إلا التدخين، وكتابة ” التقارير” في اجتماعاتهم البدائية، ضدّ كل من لم ينتسب لحزب العروبة الأوحد، الذي ظلّ أكثر من نصف قرن، يدعو لأمجاد خرافية، وتحرير فلسطين، التي ” أدخلوا كل زناة الليل إلى غرفتها، و وقفوا يسترقون السمع وراء الأبواب لفض بكارتها.” هؤلاء الذين انضموا إلى ” ثوار ” داعش فيما بعد وأطلقوا اللحى وراحوا يتحدثون اللغة العربية الفصحى وهم ينكحون النساء ” مثنى وثلاث ورباع ” ويغتصبون القاصرات هديا على سيرة السلف الصالح، لمَ لا وهم يتسامرون ويتبادلون السبايا فيما بينهم، من نسل الكرد الشياطين، بعد إن غدر بهم الزمان، ولم يلتفتوا يوما إلى ما يحصنهم بوجه جيران ديدنهم الاغتصاب، والسرقة، وتهديم أسس الحضارة الانسانية التي بناها الآشوريون والكرد من حثيين وميتانيين وبابليين وكوتيين وسومريين على أرض كردستان وبلاد ما بين النهرين.

تقع خزنة على حدود الكرد غير المرسومة في الريف الجنوبي لقامشلى، أهلها خليط من الكرد والعرب وأشباه عرب يتلونون كما تقتضي معارك البعثيين ” ضد الرجعية والامبريالية والصهيونية” فكانوا كردا حين ولدتهم أمهاتهم، وخالطوا العرب في سفوح ماردين أيام غزوات المسلمين، فتأسلموا واستعرب بعضهم، وتشتت بعضهم فهبط المنحدرات ليسكنوا قامشلى وما حولها، ومن يومها لم يصبحوا عربا حقيقيين ولا هم ظلوا كردا.

 قررت أن أذهب الى قريتي، حيث ولدت وترعرعت وطاردت طيور السمان أيام الحصاد، ومررت أول ما وصلت بقبور ذوينا، قبور ظلت لسنوات وحيدة، لا تزورها الأمهات والأبناء والبنات، فقد منعت زيارات الأضرحة والقبور التي لم تنسف صدفة في عهد أحفاد محمد بن عبدالوهاب وابن تيمية، هناك وقفت على مرقد أمي، مددت يدي إلى الشاهدة، و وقفت أتمتم لها بكلمات كانت ترددها هي وتحبها، وحين أردت ان أسير باتجاه مرقد والدي لم أستطع فك يدي من الشاهدة, شعرتها قد التصقت بالحجرة الباردة، هي أمي لا تريدني أن أبتعد، وانتظرت حتى عادت يدي إلي، وهكذا فعلت مع الآخرين ومراقدهم، و توقفت مليّاً بقرب مرقد صديقي حمد، صديقي الذي علمني فنون الصيد والرعي، فلم نترك صقرا يمر بتلك السماء إلا وطاردناه أو أسقطناه من علاه، ولم نترك عش صعوة إلا وعددناه في نيسان، وعرفنا متى رقدت القبرة ومتى فقست، ومتى طارت الفراخ، مررت على بيتنا، الذي عاث فيه ” ثوار سوريا ” ما لا يخطر ببالـ ” الصهيونية والامبريالية والرجعية ” وهناك شممت الجدران و النوافذ والتربة، وأثر برج الحمام الذي بناه والدي طفلا ولم تغادره الحمام إلا حين غادرنا الأب العنيد، التمّ عليّ أهل القرية، وهم يحدثونني عما عاشوه وما مرّ بهم، وكيف أرغموا على ترك القرية، ليعيث الثوار فيها، وكلهم يهمسون، يومها تمنينا أن يكون ” الحجي ” بيننا، ( يقصدون والدي ) فلو كان موجودا لما غادرنا القرية والله.!

 الحجي الذي لم يرضخ لسلطة البعث في مجدها، فلم يطأطئ لسيارة اللاندروفر، وحارب الاقطاعيين ,أخذ منهم الأراضي التي استملكوها، و وزعها على فلاحي القرية في بداية الستينات، ورغم أنهم نعتوه دوما بالعنيد والمتطرف وتجنبوه، إلا أنهم يفتقدونه اليوم. وتلك كانت وحشتهم. وحين التفتت إلى التربة رأيت الوحشة سيدة المكان، ورأيت العصافيرـ تقف وتنظر إلي تسأل عن رسولة روجآفا، لماذا لم تحضر معي، لتبدّد وحشة الناس والمكان والشجر الذابل، ولم أجب العصافير، لكن الرسولة كانت معي ولم يرها أحد.

نٌشر هذا المقال في العدد (43) من صحيفة “Buyerpress”

2016/5/15

11165113_541958725977071_7059124043412540130_n1111

التعليقات مغلقة.