المواطنة ….التطور التاريخي والمفهوم

64

أكرم حسين

أكرم حسين

شهد مفهوم المواطنة تاريخيا تغييرات عميقة في مضمونه ودلالاته، بعد الازمة التي تعرضت لها الدولة القومية والتحولات التي شهدها نهاية القرن العشرين وتزايد المشكلات العرقية والدينية وازدياد العنف، وإعادة  النظر بالعديد من المفاهيم في حقل النظرية السياسية بسبب العولمة، وفي سوريا يدفع الواقع المعاش عبر الأحداث اليومية إلى تحدي اشتغال الاوساط السياسية والثقافية والاعلامية بمبادئ المواطنة واليات تطبيقها، حيث تقف عوامل متعددة خلف هذا التحدي وتؤدي إلى تبلور متغيرات فكرية وسياسية واجتماعية في اطار القوة السائدة ،وتفجر العنف والذبح على الهوية، واستفحال المشكلات القومية والدينية

وتأتي أهمية الحديث عن المواطنة  نتيجة التفكك وغياب الروابط والتضامن، وبروز مؤشرات ملموسة باتجاه الفدرلة أو التقسيم، لأنها تتكون من اعراق وديانات ومذاهب متعددة وتنوع سياسي ظل محكوماً بالقسر والإكراه لأكثر من أربعين سنة. فسوريا كبلد موحد لم تكن إلا حصيلة لسياسة القهر وإرهاب الدولة والقمع المنظم والاعتقالات والطغيان الذي قاد البلد من أزمة إلى أخرى, إضافة إلى هدر الأموال والثروات و عسكرة بنى الدولة والمجتمع.. ولم يكن ذلك التوحد حصيلة طبيعية للرضى والتعايش الحر بين تلك المكونات.

 وعليه فأن الثورة السورية ألقت بظلالها على المجتمع السوري, وانعكس ذلك بشكل سلبي على المواطن إذ بدأ يتوجه نحو الدين أو الطائفة أو القومية…, بدلا من الهوية الوطنية المشتركة وذلك نتيجة سيطرة الجماعات المسلحة وفرض أجندتها وتشويه مفهوم المواطنة والعيش المشترك من قبل مختلف القوى المسيطرة، التي أنشأت نموذجها الخاص وفشلت في بناء هوية وطنية جامعة.
من هنا يمكننا أن نتساءل عن موقفنا كأفراد داخل المجتمع السوري القادم، عن حقوقنا وواجباتنا وكيفية ممارسة هذه الحقوق وحمايتها، بعد إن غابت الدولة وغابت مشاركتنا عن الشأن العام بسبب تفكك الدولة وتحولها إلى ميليشيات وعصابات وإمارات حرب للقوى المسيطرة عسكريا وفرضت مثالها السياسي والاجتماعي ونسقها الفكري والثقافي والاخلاقي. ومع الحديث عن الانتقال السياسي والدستور والانتخابات، يدفعنا التساؤل السابق إلى طرح مسألة المواطنة المتساوية بمختلف ابعادها وكيفية بناء دولتها، وسبل منع عودة الاستبداد المحدثن في صيغته المتجددة، والخروج من حالة التقبل السلبي لما يجري من قرارات وخيارات، إلى الفعل المنتج والمساهم في الحياة العامة بمختلف مجالاتها واوجهها .

يرجع البعض مبدأ المواطنة إلى المدن الاغريقية أو فكر أرسطو فالرجل الذي كانت تتوفر فيه شروط معينة في أثينا من حقه أن يشارك في إدارة الشأن العام عبر التصويت في الأمور والقضايا التي تهم المدينة وممارسة حق الانتخاب، أما البعض الآخر فيربط ظهوره بعملية استقرار البشر وانتقالهم إلى حالة التوطن ونشوء المدينة كفضاء افترض العيش المشترك لأناس مختلفين في الطباع والسلوك والمصالح، وكانت بلاد ما بين النهرين من أوائل المناطق التي شهدت معنى المدينة،ثم توسع المفهوم عند الرومان، ليشمل كل المواطنين بما فيهم النساء عبر إصدار “منشور كركلا” 212 قبل الميلاد، ونظم الرسول محمد في صحائف المدينة التي وضعها عام 623 م، العلاقات بين أبناء المدينة وحدد التزامات المهاجرين والأنصار واليهود وواجب القبائل في الدفاع عن المدينة، وعاد المفهوم للظهور في أوربا عام 1642في انكلترا مع توماس هوبز وكتابه ” المواطن أو اسس السياسة ” وتدعم بشكل أعمق في القرن الثامن عشر مع قيام الثورة الفرنسية وصياغة مبادئ المواطنة وإصدار إعلان حقوق الانسان إبان الثورة عام 1789

قبل البدء بتعريف المواطنة لابد من ايضاح بعض المصطلحات التي لها علاقة بالمفهوم, فالوطن حسب “ريموند كايتل” هو:( مجتمع من الأفراد يقيمون باستمرار في إقليم معين, مستقلين من الناحية القانونية عن كل تسلط أجنبي, ولهم حكومة منظمة تشرع وتطبق القانون على جميع الأفراد داخل حدود سلطتها).

والمواطن فرد من المجتمع له حقوق وعليه واجبات,أما المواطنة فهي علاقة عضوية متبادلة بين المواطن والدولة، ويعرفها البعض على أنها مصطلح سياسي متطور ومتبدل يتطور مع التاريخ بحيث يمكننا القول بأن المواطنة ” تتمثل في المشاركة الواعية والفاعلة لكل فرد دون وصاية من الدولة “، وتعرفها دائرة المعارف البريطانية” بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة, وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة. وتؤكد (بأن المواطنة على وجه العموم تسبغ على المواطن حقوقا سياسية،مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة ).أي أن المواطنة تتحدد اعتمادا على طبيعة العلاقات القائمة بين المواطن كعضو في كيان سياسي (الوطن ) وبين كل شرط من شروط تكونه بمعنى وجود أبعاد متعددة ومتكاملة للمواطنة ويتمثل أولها في البعد الحقوقي، وهي الحقوق التي تكفلها الدولة للمواطن دون أي تمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو الثروة مقابل التزامات الفرد تجاه الدولة والاخرين، والثاني اقتصادي يستهدف إشباع الحاجات المادية الأساسية للفرد وتوفير الحد الأدنى لحفظ كرامته الانسانية والثالث يتعلق بمكونات الفضاء أي يهتم بالجوانب الروحية والنفسية والمعنوية للأفراد والجماعات على أساس احترام خصوصية الهوية الثقافية، ويمكن تلخيص مبادئ المواطنة بالجملة ” المشاركة الحرة للأفراد المسؤولين المتساويين ”         ترتبط المواطنة بالممارسة الديمقراطية وهي صفة للمواطن الذي يتمتع بكامل حقوقه ويلتزم بواجباته التي تفرضها طبيعة انتمائه إلى وطن وفي صدارة هذه الحقوق تأتي الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وتنفيذ واجباته كالولاء للوطن والدفاع عنه والعمل في سبيل تطوره وتقدمه، وتتجسد المواطنة الفعالة من خلال علاقة الفرد بالدولة عبر الدستور وضبطها بالقوانين المنبثقة عنه، التي يجب أن تحمل كل معاني المساواة، ولتحقيق المواطنة الحقيقية  لا بد من وجود دولة ديمقراطية مستقلة ذات سيادة، وما يستتبع ذلك من حق اختيار العيش المشترك وتقرير المصير بمعنى كفالة تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات وإتاحة المشاركة في الفضاءات العامة وتحمل المسؤوليات المختلفة وتحقيق التنمية لإيجاد بيئة انسانية صحية مديدة وخلاقة، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مؤسسات ديمقراطية تفرض القانون وتصونه.

نُشر هذا المقال في العدد (43) من صحيفة “Buyerpress”

216/5/15

مقالات1

التعليقات مغلقة.