عندما يفقد الإعلام المهنية والنزاهة

44

من واجب المؤسسة الإعلامية أن تعلم جمهورها بما يجري، وأن تخبره وأن تنوره وتثقفه، ولها أن تحلل وتكشف بل وحتى أن ترفض ما يحدث إن شاءت.

الثلاثون من أبريل 2016 لم يكن يوما عاديا في بغداد، الآلاف من الناس زحفوا باتجاه المنطقة التي أصبحت منذ 2003 وكرا للسلطة الحاكمة في العراق وللسياسيين الذين نصبوا أنفسهم زعماء وقادة معظمهم دون تأهيل ولا تدريب فجمعوا مريديهم وأتباعهم وأقاربهم وحمياتهم، وراء جدران المنطقة التي سماها الأميركيون بالخضراء كونها آمنة ومحصنة، وما خارجها هي منطقة حمراء تعج بالمخاطر والتهديدات والعنف والإرهاب.

فيصل الياسري
فيصل الياسري – كاتب عراقي

في الثلاثين من أبريل 2016 قام سكان المنطقة الحمراء باختراق تحصينات المنطقة الخضراء معبرين عن سخطهم وغضبهم لمماطلة السياسيين في تحقيق الإصلاحات الموعودة، وقد وجدت الجماهير في تحريض الجهة السياسية التي دعتها إلى التظاهر والاعتصام، فرصة لإظهار مدى الإحباط السياسي الذي تعاني منه، فكان اندفاع الناس نحو بوابات البرلمان والغضب الذي أظهروه أكثر من مجرد استجابة لدعوة زعيم ديني أو سياسي بل هو انفجار القهر الذي يتفاعل في داخلهم!

كيف تعاملت وسائل الإعلام العراقية مع هذا الحدث الفريد الذي طغى على كل الأحداث يومها ليس في بغداد وحدها، وأثر على حياة الناس اليومية وعرفه الكبير والصغير واهتم بتطوراته؟

بضعة فضائيات (ظاهرها أنها خاصة) تبنت ما يجري في الشارع وجعلته بثا مباشرا مستمرا وغطته بكاميرات منتشرة في عدة أماكن، حتى أن بعضها كان في طائرات تحوم حول المتظاهرين ويتابع ما يجري ودخل مراسلو تلك القنوات “الخاصة” مع الشباب الغاضب مبنى البرلمان وصوروهم وهم يجلسون على مقاعد النواب.

سبع فضائيات عراقية تجاهلت ما كان يحدث نهائيا ولم تذكر عنه كلمة واحدة، ولم تعرض لقطة ثابتة أو متحركة عما كان يدور في شوارع بغداد، واستمرت تلك القنوات في بث برامجها المعتادة، وخاصة البرامج الترفيهية التقليدية، أو أفلام عن الطبيعة والحيوانات أو الرياضة وكأن الأوضاع في المدينة عادية.

وهذا سلوك يتنافى تماما مع أصول العمل الإعلامي الذي يحتم تغطية الأحداث الجارية مهنيا، بغض النظر عن موقف إدارة الوسيلة الإعلامية من دوافع وأهداف ومجريات من يقف وراء ذلك.

من واجب المؤسسة الإعلامية أن تعلم جمهورها بما يجري، وأن تخبره وأن تنوره وتثقفه، ولها أن تحلل وتكشف بل وحتى أن ترفض ما يحدث إن شاءت، بل إن المؤسسة الإعلامية الرافضة لما يجري أو المعترضة تستطيع أن تختار من الأحداث ما يؤيد وجهة نظرها السلبية وأن تنتقد ما يجري في الشارع لا أن تتجاهله. هكذا تعمل وسائل الإعلام المحترفة.

أثار هذا السلوك غير الموضوعي وغير المهني استغراب الكثير من المشاهدين وفسروا تجاهل تلك الفضائيات لما يجري في شوارع بغداد بأنه التزام منها بانتمائها لأحزاب وكتل سياسية غير متناغمة مع طروحات الجهة المحفزة للتظاهر والتي يعلو صوتها بالمطالبة بالإصلاحات ومحاربة الفساد، فقد يشمل مبدأ “شلع قلع” بعض المقربين من التجمعات المصرة على الاحتفاظ بمكاسبها السياسية والمالية.

وقد التزمت تلك الفضائيات المعارضة للجماهير الغاضبة بموقفها السلبي مما جرى شعبيا حتى بعد الثلاثين من أبريل، فتبنت إعلاميا طروحات الجهات الرسمية المسيئة للمتظاهرين “التحسّر على أثاث وأشياء مادية … البكاء على “القنفة” التي اتسخت، ونثار الزجاج الذي أزعج رئيس الوزراء وجلوس بعض الفقراء والبسطاء المحتجين على كراسي رئاسة البرلمان والبكاء على حرمة مجلس النواب وهيبة الدولة”، و الترويج لمفاهيم شديدة الفساد والأسى، فيصبح اقتحام البرلمان عملا إرهابيا يستحق خطباً وبيانات ووصف ما حدث بالجرائم انطلاقا من طلب رئاسة مجلس النواب “عدم إصلاح الأضرار والإبقاء على كافة معالم الجرائم المرتكبة من دون تغيير”.

لقد راقب المشاهد العراقي عبر الفضائيات ما جرى في بلدان مختلفة من صدامات وتظاهرات ضد السلطات والحكومات وحتى اقتحام البرلمانات ودوائر الحكومة، وصل بعضها إلى حد التشابك بالأيدي والعصي وخراطيش الماء والغاز المسيل للدموع وحتى بالرصاص المطاطي والصلب، ولم نلاحظ في تلك البلدان أن قناة فضائية أو وسيلة إعلامية موالية أو معارضة، رافضة أو موافقة، أحجمت عن تغطية تلك الأحداث ونقل صورة واقعية عنها للمشاهدين، ومتابعة نتائجها وتطوراتها مع المحللين والخبراء والمراسلين، وطرح وجهات النظر، بما في ذلك وجهة نظر الفضائية ذاتها فتكسب متابعة المشاهدين لها بمقدار ما تظهره من موضوعية تنويرية تدعمها الشفافية والنزاهة.

فيصل الياسري – كاتب عراقي

العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.