بين مزكفت وجنيف

45

طه خليل

طه

اعتقدنا أن الشام آخر الدنيا، وأن المريض الذي يتعالج في الشام أو حلب ويموت يعني أنه فعل المستحيل، وتقول الناس عن الراحل :” لقد عاش كثيرا ورأى كثيرا، حتى الشام وحلب, لقد شبع من الدنيا ” وحين جئنا إلى الشام للدراسة، كنا نكتب الرسائل لذوينا ونشكو لهم آلام الغربة، وزخرفنا قصائدنا بعبارات الآه والأوف وحنين العودة إلى بيادر قرانا.

و في الشام عرفنا فيما بعد أن هناك بلاداً أخرى بعيدة، هناك المانيا وفرنسا، والسويد، وكانت طلائع المهاجرين الكرد تصل إليها تباعا، كانت تلك البلاد تبدو لنا ضبابية غامضة، وبين الحين والآخر نسمع أن فلانا قد هاجر إلى السويد، أو إلى ألمانيا، ومن هؤلاء بعض أنصاف الموهوبين من شعراء ورسامين، بعد أن سمعوا أن بشار العيسى وعمر حمدي حققا هناك نجاحات كبيرة، وأتذكر سائق تكسي، كان يقول لمن حوله أنه فنان تشكيلي، كانت لوحاته، أقرب إلى المسخرة منها إلى الرسم، وتشريح سيحاسبه الله عليه يوم القيامة، وهاجر السائق بدوره إلى ألمانيا، ولم تمض شهور حتى قرأت خبرا في الجريدة تحت عنوان: ” فلان الفلاني يعرض في كولن بألمانيا “يومها قلت لنفسي: “ربما كنت أظلم الرجل، يا الهي انه يعرض في بلاد الجرمان، حيث موخ، وكليمت وبول كلي وفالدسميلر وغيرهم “. وقبل أن تنتهي دهشتي أقرأ: “الشاعر فلان الفلاني لديه أمسية في ميونخ.” واااخ .. ميونخ يا الهي! وكنا هنا نطرده من مجالسنا، لرائحة نتنة تنبعث من إبطه، يا الهي، تلك كانت روائح العظمة وما كنا ندري، يا رب ميونخ سامحنا، والأمثلة كثيرة.

ومرّت مياه كثيرة من تحت جسور دهشتنا، حتى وصلتُ بنفسي إلى تلك البلاد، وقضيت سنوات ولم أجد أحدا يهتم بشعري أو بلوحاتي، وكظمت غيظي وخيبتي، وظلت أسماء ميونخ وكولن ومالمو ونشاطات ” الشباب ” تدغدغ عرق الحسد والغيرة في قلبي، حتى عملت مع الصليب الأحمر واللاجئين، و كان من بين مما كلفت به، بعد دورات مكثفة، أن أساعد اللاجئين على التأقلم مع المحيط، وأساعد المصابين بالكآبة للخروج منها، فكان أن تلقيت دروسا تقول: معظم اللاجئين يحتاجون مساعدة فغالبيتهم يعانون من الشيزيفرونيا، علي أن أجلس معهم وأسألهم إن كانت لديهم مواهب ما، شعر، رسم، غناء، وكنا نشتري لهم ما يحتاجونه من أقلام ودفاتر ليكتبوا، وألوان وكارتون ” كانسون ” ليرسموا، ثم نجمع أشعارهم أو “لوحاتهم” ونقيم لهم معرضا أو أمسية.. أين؟ في جنيف أو زيوريخ أو لوكارنو مثلا.. وأين.؟ في غرفة ما تابعة لكنيسة أو لمؤسسة خيرية تهتم باللاجئين. واكتشفنا بعد ذلك، أن الفنان المعني صدّق أنه صار يبزّ كليمت ورينوار والشاعر لا يقل عن بريخت.

يذهب مسؤول سياسي بعد مليون واسطة ليحصل على فيزا، إلى أوروبا فيلتقي بموظفه في وزارة ما لشؤون اللاجئين، ويتصوّر معها، ويرسل صوره عبر الأثير للشعب “الكووووردي” قائلا: إن الفرج قريب، فقد ناقش مع وزارة الخارجية الفلانية حقوق الشعب الكوووردي. وأنا عدت من تلك البلاد لأذهب وأبدد وحشتي مع رسولة الماء والبحيرات، في “مزكفت” أو “حياكا” أو “جم شرف” أضع رأسي بين يديها، وأقول للعصافير: “صورينا، فأنا مع الرسولة أشكو لها هموم الطير ووحشة القلب، هنا في مزكفت، ومن يدري أين تقع “مزكفت”؟

قد يعتقدون أن الاسم اسكندنافي والرسولة غيمة الشاعر ووحشته.

نٌشر هذا المقال في العدد(38) من صحيفة “Buyerpress”

2016/3/1

ثقافي

التعليقات مغلقة.