وحشة.. مهاجرون
كثيرا ما كنت اتعرض لسؤال: كيف هي أوروبا؟
هذا السؤال كان يسألني إياه أصدقاء كانوا يتحضرون للهجرة إليها، وقلّة منهم من باب الفضول، كوني ” عشت ردحا من عمري ” هناك، وخلال الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالموضوع وجدت أن الراغبين بالهجرة لم يكن تعجبهم أجوبتي التي كانت سلبية في شكلها العام، ولم أكن مشجّعا لمن يودّ الذهاب إلى جنة الدنيا، والنساء والأموال، وبالتالي إرسال المال لذويهم المنتظرين في الجزيرة لشراء الحصادات والشقق في فيلات المطار، أو افتتاح دكاكين نوفوتيه ومطاعم ” أوربية ” في بلدة هي أكبر من قرية وتدعى قامشلو.
يأتي المهاجر إلى أوروبا وهو يظن أن الأوربيين ينتظرونه على أحرّ من الجمر، وأنه لا يحتاج إلا لبضعة أشهر فيتقن لغتهم، ليجد عملا مناسبا، وبيتا صغيرا، وآخر الشهر يستلم ” المعونة ” وهو يسميها: الراتب، وبعد سنتين أو ثلاث ترسل له أمه عدة صور لفتيات صغيرات من بنات المعارف والجيران كي يختار الابن البارّ زوجة له من بينهن، بعد أن يعرض صورهن بدوره على أصدقائه هناك، لمساعدته في انتقاء الأجمل والأهيف، وهكذا حتى يجيء الصيف ، فيتحايل الابن اللاجئ على قوانين اللجوء ويعود في زيارة إلى البلدة البائسة قامشلو، وهو يرتدي ” تي شورت ” وشورتا فوق الركبة، وينزل إلى سوق البلدة وهو يرتدي نظارات شمسية، ويتزنر بمحفظتين في خصره إحداهما كاميرا صغيرة سرقها من محل ما أو اشتراها من سوق الأحد هناك، وفي الثانية بعض النقود الاوربية يورو، فرنك، كرون أو دولار، وكلما اشترى مصاصة فتح محفظة النقود أمام عين البائع ليريه ما بداخلها من عملات تلك البلاد البعيدة، ويتأفف قليلا للبائع مستغربا كيف يتحمل الناس هنا حر الصيف، فيرمقه البائع بحسد ظاهر.
ذات مرة, وخلال إحدى سفراتي إلى سوريا، من سويسرا سمع أحدهم باني عائد إلى ” الوطن ” فاتصل بي ورجاني أن يلتقي بي ليرسل لأهله شيئا ما، فوافقت، وفي اليوم التالي جاءني شاب طويل عريض مفتول العضلات، برفقة عجوز مترهلة، عرفني عليها أنها زوجته، وأظن أنه تزوجها من دار العجزة، وأحضرها معه مرغما محرجا لتدلّه على العنوان، قالت لي زوجته بعد أن وضعت كيسا بيدها على طاولتي: ” هذه ربطة فجل وأخرى هليون طبيعي، آزاد زوجي يعمل في مزرعة فلاح في قرية قريبة من بيرن، وهو يقوم بتسميد الأرض بروث البقر وبولها ( السويسريون يستخدمون روث البقر وبوله للتسميد بكثرة) وهززت رأسي ونظرت إليها وإلى آزاد مبتسما وشاكراً، وكأن آزاد فهم ما قالته الزوجة عن عمله، فأراد ن يداري خجله وقال لي بالكردية ” الشغل مو عيب هنا.” وقلت له:” وهناك أيضا ماموستا ” وقبل نهوضهما سلمني مظروفا وطلب مني أن أسلمه لأهله في الهلالية، فقلت له سأعتذر منك علي أن أعرف ما بداخل الظرف، لأن مطار الشام يفتحون كل شيء ويقرؤونه، ففتح لي الظرف واذ فيه مائتا فرنك سويسري، وعدة لقطات صور لآزاد ( يومها لم تكن موضة الانترنيت قد درجت ) ودققت بالصور وإذ بآزاد قد تمدّد في حوض بانيو، وغطى جسده برغوة شامبو تعلو أكتافه وفي فمه سيكارة ويضع سماعة التلفون على أذنه ويبتسم لعدسة الكاميرا، والثانية وهو يجلس على طرف البانيو ويرتدي الروب دي شامبر ويلف رأسه ببشكير كأهل “بشكيرستان”، والثالثة وهو يفرشي أسنانه ويبتسم .
سألت ماموستا هل سترسل هذه الصور لأمك.؟ “çi heqê te lê heye ” وهي بَنَتْ حائط حوشها بالهلالية بصفائح زيت فرزات.؟
أعتذرْ.. لن آخذ معي هذه الصور، وظنّ أني أمزح معه، وحين عدت لم أسلّم أمه سوى المائتي فرنك سويسري ولم أخبرها بناء على رجاء منه كم طنّا من ” الزبل ” يرشّه فلذة كبدها هناك، وكم مرة يتحمم ليليق بعجوز تقضي أيامها الأخيرة معه هناك.
ثلاثة أشياء لا يفهمها الإنسان إلا إذا جربها وعاشها، الخدمة العسكرية في الجيش السوري، والزواج المبكّر, والهجرة إلى أوروبا, وتلك ثلاث وحشات قاسيات.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 37 بتاريخ 2016/2/15
التعليقات مغلقة.