الشتات الكردي وإمكانية الإنجاح “الهجرة “
ومن نافلة القول بأن الكردي في الخارج قد هرب أو تخلف عن واجبه لحماية أرضه ووطنه، وتبقى التهمة مرحلية حتى يفي الكردي المغترب بالواجب الملقى على عاتقه، وهنا تكون للعقيدة دورها الحاسم.
النصف الثاني من القرن المنصرم هي المرحلة المزدهرة للهجرة الشرقية إلى الغرب، والتي اتسمت بالمعنى الكلاسيكي للهجرة، وبداية تحول اجتماعي وثقافي في بروز وتبلور فكرة الهجرة كحلّ ممكن في الفكر الشرقي ككلّ، فالأسباب كثرت والأشكال كانت بتغيّر ولكن النتيجة واحدة, والتي بدورها كانت تعزز وترسخ ثقافة الهجرة في الفكر العام، فعدم الاستقرار السياسي والعسكري والاقتصادي تعطي نتائجها الاجتماعية على نحو تراكمي وبصيرورة منسجمة مع واقع ذاك المجتمع المضطهد إن جاز التعبير، بدرجة أصبحت فكرة الهجرة مستساغة لحد معقول مع توفر شرط من الشروط (الاضطهاد) والتي كانت بشأنها “فكرة الهجرة “أن تكون متعاظمة أكثر عند الأقليات (الدينية والأثنية والأيديولوجية )التي كانت دائمة التوفر لشروط الاضطهاد في ظل حكومات فردوية متزمتة في طرحها. عندما كان الغرب يعاصر نتاج مرحلتي النهضة والتنوير كان الشرق معاصراً لنتاجات عصور طويلة من العبودية والاحتلال المباشر وغير المباشر(الانتداب والتبعية) التي كشفت في نهاياتها عن شخصية شرقية ضائعة الهوية ومن عدة أصعدة (الدينية، الثقافية، الاجتماعية) بغض النظر عن الحالة القومية التي تعتبر نوعا ما في بداية مراحل النمو والتطور.
أي نحن أمام حالة قديمة متجددة، ولكن التجدد في هذه المرحلة “الحرب” لم تكن وفق تطور وصيرورة طبيعية أي لم تمرّ وتعايَن وفق ضوابط ومعايير اجتماعية تختلف حسب التنوع الاجتماعي، ومن ضمن المستوعبين الأوائل للفكرة (الهجرة من دون تفكير مسبق) التي اجتاحت سوريا، كان للكردي النصيب الاكبر.
أكثر المتداولين لإشكالية الهجرة في الإطار السياسي هم الكرد السوريين ولا يخفى الأمر كونه السبب الرئيسي في معاناتهم جراء سياسة التهجير المطبقة بحقهم في معظم الفترات والتي كانت تقسم لديهم إلى قسمين :الهجرة الداخلية والهجرة الخارجية، ولهذا عرفت السياسة الكردية في سوريا بسعيها الدؤوب ونشاطها المنصبّ على تأكيد الوجود الثقافي المجتمعي الكردي، والتحديد الجغرافي الكردي في الخارطة السورية، أيضأ كان السبب في كثرة تداول مسألة الهجرة الكردية هي استعمالها كورقة سياسية لتتراشق الأطراف السياسية بها كتهمة والتأكيد على فشل أحد الطرفين السياسيين، وعلى الصعيد نفسه تعاظمت إشكالية الهجرة في الوسط الثقافي وظهر التباين واتسعت الهوة بين مثقفي الداخل والخارج.
كما ذكرت في بداية السطور عن ثقافة الهجرة كانت حالة تراكمية وتحتاج إلى مسوغات ومقومات فكرية قبل ان تكون مادية. نعم كان إرهاصاً غير محبّب في الواقع المعاش ولكنه كان واقعاً منطقياً للبعض رغم كل الأحوال.
إذاً الهجرة التي حصلت في بداية الثورة السورية وبالتحديد المنطقة الكردية لم تكن حالة غريبة وجديدة على المجتمع الكردي ولكن ما حصل وبشكل لافت لم تكن عملية الهجرة في تراتبية فكرية اجتماعية، أي لم يحدث أي تجهير فكري وموضوعي، بمعنى لم تكن وليدة قناعات متطورة طبيعياً، فالمعظم كان مستعيناً بالشروط المادية (الوضع الاقتصادي ) لتبرير الهجرة ولم يأبهوا بالجانب الفكري، واستعدادهم الكامل لتقبل مجتمع آخر متباين ثقافياً، وإمكانياتهم في تغيير العادات والتقاليد ومعرفة مكامن الضعف والقوة الموجودة في مكتسباته الاجتماعية، ليكون على استعداد بالاندماج. أي لم يتهجر نفسياً للهجرة. لهذا يصطدم المهاجر الكردي قبل غيره بمعوقات تحول دون اندماجه في واقعه الجديد، وضف على ذلك الواقع الكردي السوري الشبه المستقر بالمقارنة مع بقية مناطق سوريا المتعرضة للقصف والوجود العسكري، ما يزيد امتعاضه أكثر لمحيطه الجديد.
ومن جملة ما يعانيه المهاجر الكردي ونتيجة الضغط النفسي الذي يحاصره هو التطرف القومي الذي يظهر فور وصوله إلى مغتربه لتكون ردّة فعلٍ طبيعية على الاضطهاد النفسي الذي يعانيه (أو يخيل إليه).وهنا يسعني أن أشبّه أو أقارب في حالة إسقاط ما يعانيه الكردي لما عاناه اليهودي قبل القرن العشرين، وتقصدت في اختيار كلمة “الشتات” للعنوان لأدلل على أوجه الشبه والتقارب بين الحالتين (الشتات اليهودي والاغتراب الكردي ).
فجملة – الشتات اليهودي- سياسية بقدر ما هي دينية ورد ذكرها في كتاب العهد القديم “التوراة ” وهو شرح مستفيض لمعاناة اليهود التي تنتهي بأرض الميعاد (القدس أو إسرائيل). وكحالة طبيعية، أنتجت تلك المعاناة تقسيمات ومصطلحات يشار إليها في الواقع اليهودي حتى يومنا هذا، ومنها: الأشكيناز وهي عبارة تشيرإلى اليهودي في الشتات وتحديداً القارة الأوربية (الهجرة الخارجية) “أوربا الشرقية، الوسطى، الغربية”. والتي يقابلها في ذات التقسيم مصطلح آخر وهو: السفارديم أي اليهود الذين لم يهاجروا إلى أوربا (الهجرة الداخلية) وكانوا قريبين من أرض الميعاد (البلدان العربية)، ومنذ السبي البابلي تبلورت أفكار وأيديولوجيات لدى اليهود تفيد بأن الشتات هو العامل الأقوى الذي حفز اليهود على التمسك بعقيدتهم وزادت تلهفهم للعودة إلى أرض الميعاد (القدس) وبصيرورة ودون الغور في التفاصيل التاريخية كان الاشكيناز هم الناتج أو المردود لهذه الايديولوجية التي أفرزت بدورها مصطلح آخر ألا وهو الصهيونية، وهو الوجه العلماني الذي آمن بالعمل وبشكل دؤوب ومكثف لتثبيت دعائم الدولة الإسرائيلية الحالية، وتسمية صهيون هو اسم الحصن القديم الذي بناه اليبوسيون في القدس لحمايتها، وفكرهم يتمحور حول حماية أرض اسرائيل من الأغيار وذلك نتيجة الحالة التراكمية لعواطفهم وشوقهم التواق إلى أرض أجدادهم وهم يعيشون بين الدول الاوربية.
وما يمكن ذكره للتدليل على عملهم وعقيدتهم الراسخة، وهي إن الصهيونية أول حركة استلمت السلطة في اسرائيل عندما انتخب الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون أول رئيس لوزراء اسرائيل عام 1948.
قد يكون أوجه التشابه في حالة الشتات اليهودي والاغتراب الكردي قريبة في بعض النواحي، وبعيدة في بعضها الآخر. إلا أن الحرمان من الوطن مع وجود عقيدة تغذي طموح العودة من شأنها أن تدفع المرء إلى العمل بكل ما لديه من عزيمة وقوة لتحقيق هدفه.
ومن نافلة القول بأن الكردي في الخارج قد هرب أو تخلف عن واجبه لحماية أرضه ووطنه، وتبقى التهمة مرحلية حتى يفي الكردي المغترب بالواجب الملقى على عاتقه، وهنا تكون للعقيدة دورها الحاسم، وأنا أؤمن جازما بأن الذي لا يملك عقيدة قومية تغلب مصلحة بني قومه على مصلحته الشخصية سوف لن يكون ذا فائدة حتى ولو كان على أرض الوطن.
ولكن وفي الوقت الحالي يبقى الكردي المغترب يعاني ما يعانيه من مرارة الهجرة، وهو متعب نفسيا بقدر ما هو متشوّق للعودة إلى الوطن ويبقى الوطن ملاذه الآمن كيفما رحل. وما يختصر بعض الشيء من المعاناة المذكورة في السطور السابقة، ما قاله لي أحد اللاجئين في حديثه عن هجرته وهو ممتلئ بقناعة ما يسرد: عندما سقطت قذيفة قرب منزلنا في قريتنا النائية التي كانت محرومة من أبسط مقومات العيش الكريم، وحملت صغاري فارّاً منها وأنا محدثا نفسي: لقد خلصت عائلتي من الجوع الذي سيسبق موتهم تحت القصف، ولكن عندما وصلت إلى مهجري هذا، علمت بأننا متنا منذ ذلك الحين ولكن أغلبنا لا يعلم بعد.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 36 بتاريخ 2016/2/1
التعليقات مغلقة.