الكرد في سوريا بين الماضي والحاضر..؟

43

2عاش الكرد في سوريا مخاضات عسيرة في فترة الحرب الباردة من منتصف الأربعينيات وحتى أوائل التسعينيات من القرن الماضي, حيث مارس الكرد حياتهم السياسية في أجواء تميزت بحدّة الصراع الفكري والسياسي بين الكتل والتنظيمات السياسية الكردية؛ التي انقسمت إلى مجموعة التنظيمات التي كانت تتبنى الفكر اليساري الاشتراكي,  وبين تلك التي كانت تتبنى الفكر القومي المحافظ (اليمين).

 هذا الصراع الذي كان يتميز بجدّية العمل في بداياته, بدأ الضعف والخلل يصيب مفاصله, مع ازدياد تمركز سلطة البعث وسيطرتها وإحكام قبضتها على مجمل مفاصل الحياة السياسيّة السوريّة, وبصورة خاصة بعد فترة السبعينات, والبدء بتشتيت المعارضة السياسية الكردية وتمزيقها عبر التكتلات والانشقاقات المتتالية وزرع عملائها في مختلف الهياكل والهيئات التنظيمية لهذه الأحزاب, والتي أسفرت بنهاية المطاف -في فترة ما قبل الثورة السورية- إلى تقسيم المجتمع الكردي سياسياً إلى ثلاث فئات رئيسية:

الفئة الأولى: وتتشكل من أغلب قيادات الأحزاب الكردية ولجانها المركزية الذين قَبِلوا على أنفسهم تنفيذَ ما يُطلب إليهم أمنياً, بالعمل على تقطيع أوصال جسم الحركة الوطنية الكردية بمزيدٍ من التكتل والانشقاق وتشكيل أحزاب جديدة, بحجج واهية وشعارات متكررة, وممارسة مختلف أنواع وأساليب التحايل ونسج الأكاذيب بغية خلق شعور عام لدى العامة  تتسم باليأس والتشاؤم وفقدان الثقة بالعمل التنظيمي والحزبي كوسيلة من الوسائل الناجعة لاستحصال الحقوق المشروعة, مما كان من شأنه مغادرة الوطنيين والمخلصين ساحة العمل الوطني وترك الساحة لهم يمرحون ويسرحون كما تشتهي الأجهزة الأمنية, مما كان من شأن ذلك أن تشكل الفئة الثانية سياسياً في المجتمع الكردي.

الفئة الثانية: وتتشّكل من الوطنيين الذين تم استبعادهم ولفظهم إلى خارج العمل التنظيمي بحجج واهية, الذين لا مصلحة لهم سوى ملامسة إرادة الصدق بالقول والعمل, لكل ما يمكن أن يخدم قضية شعبهم, هؤلاء الذين انسدت في وجوههم معظم الأبواب وأصابهم اليأس وفقدان الأمل في إمكانية تصحيح المسارات الخاطئة في مسيرة العمل الوطني وآلية عملها في ظل وجود وسيطرة هذه الشاكلة من القيادات.                 وقد ضمّت هذه الفئة بين صفوفها معظم الكتاب والأدباء والمفكرين والشخصيات الوطنية والمنحدرة من أصول وطنية الذين يشهد لهم تاريخهم الوطني الخالي من الشوائب إنْ صح التعبير, وقد ظلت هذه الفئة طيلة عقود من الزمن تعمل بصمت وبصورة فردية ومبعثرة لا تجمعهم رابط تنظيمي لأن قدراتهم كانت أقل ما يمكن أن تجابه التحديات الكبيرة على مختلف الأصعدة والاتجاهات.

الفئة الثالثة: وتتشكل من المتطفلين والمرابين والسماسرة والانتهازيين, الذين لطالما كانوا يسعون دائماً إلى تحقيق المكاسب الشخصية الذاتية, والارتماء في أحضان الأقوى (السلطة) في الساحة دون إعطاء أية أهمية لمسائل الشرف والكرامة, ما دام ذلك يحقق لهم الغنى والثراء, ضاربين بعرض الحائط أي ارتباط لهم بالمسائل الوطنية  والقومية, سواء عن طريق الارتباط والعمالة وبصورة شبه علنية بالأجهزة الأمنية, أو بالانتساب إلى حزب البعث الحاكم وتولي مسؤولية إدارة البعض من دوائر الدولة, ليكونوا عيوناً يقظة للأجهزة الأمنية في كتابة التقارير الدورية, أو أولئك العاملين في مجالات العمل غير المشروع وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والمدرّة للأموال كالتهريب وتجارة الممنوعات.

وفي ظلّ هذه الأجواء اندلعت الثورة السورية ومع مرور الزمن وتغيّر موازين القوى وتبدّل اتجاهات الثورة, وتشكّل قوى جديدة على الساحة السورية, ومنها المنطقة الكردية, فقد كانت لهذه الفئات الثلاث نصيب من التغيير والتبدّل.

الفئة الأولى: على مستوى هذه الفئة المتشكلة من قيادات الأحزاب ولجانها المركزية, الذين كانوا قد فقدوا بريقهم وشعبيتهم نتيجة ما كان قد أصبح واضحاً قبل الثورة لدى الجماهير عقمهم وعدم فعاليتهم في انتزاع أي مكسب يفيد القضية والشعب. وجدت تلك القيادات فرصتهم الذهبية مع اندلاع الثورة في محاولة منهم إعادة ثقة الجماهير بهم, واستعادة مكانتهم الاجتماعية والسياسية, لكنهم ومع مرور الزمن  تبين أن ليس بإمكانهم فكّ الارتباط فيما بينهم وبين تلك الأجهزة الأمنية التي كانت لها اليد الطولى في تكوين شخصياتهم المبتذلة ونمط تفكيرهم المحدود, لكنها رغم ذلك استطاعت وإلى حين أن تلعب دوراً ألقت ببعض الظلال والأوهام أمام أعين فئة من الناس بأنها يمكن لها أن تفعل شيئاً, خاصة ومع قدوم هذه الفرصة التي لطالما انتظرها الكرد سيّما وأنهم لم يتم تجريبهم سابقاً ميدانياً وبصورة عملية, ولكن ومع مرور الزمن وحيث يفرض واقع الحال, العمل على الأرض وبين الجماهير وعدم الاكتفاء بما هو نظري أو مجرد عقد الاجتماعات وإصدار بيانات التنديد والاستنكار, تم تعرية هذه التنظيمات ووصلت بها الحال إلى درجة شبه الفشل التام في التعامل مع الوضع المستجدّ, اللهم إلا في شيء واحد إذ استطاعت هذه الأحزاب ومنذ الأيام الأولى الوقوف وبحزم في وجه الحركات الشبابية واحتوائهم, مستخدمين في ذلك ما عرفوا بها سابقاً من أساليب الخداع وامتصاص حيوية النشاط والاندفاع وضمهم إلى المجلس الوطني الكردي ومن ثم التخلص منهم نهائياً, هذا العمل الذي كان يعتبر من صميم أهداف الأجهزة الأمنية.

الفئة الثانية: فئة الأدباء والكتاب والمثقفين والوطنيين التي وجدت في قدوم الثورة بارقة أمل لمستقبل زاهر مما دفع بهم المباشرة في الانخراط في العمل ضمن مختلف فعاليات ومؤسسات المجتمع المدني المرتبط بعضها ببعض التنظيمات السياسية الكردية والبعض الآخر العاملة بصورة شبه مستقلة, كما توجّه قسم من هذه الفئة في الانخراط في العمل السياسي ضمن الأحزاب والمنظمات الكردية عسى ولعلّ أن تجد لنفسها الفرصة للقيام بعملٍ جدي يتلاءم ومع ضرورات هذه المرحلة, إلّا أن هؤلاء ومرة أخرى اصطدموا بمختلف العراقيل التي تتناقض وتنافي القناعات والمبادئ التي آمنوا بها وتلك التصورات الزاهرة في أذهانهم وبالتالي لم يتمكنوا المتابعة والسير إلى نهاية المطاف, تلك العراقيل والعقبات المستعصية التي بدأت بلفظهم يوماً بعد يومٍ إلى خارج ساحة العمل ودوائر الضوء, مما دفع بقسم من هؤلاء بعد فقدانهم الأمل إلى شد الرحال والهجرة إلى خارج الوطن, والقسم الآخر من هذه الفئة البعض منهم لا يزال يعاني ويكابد عسى أن يستطيع أن يفتح طريقاً لإصلاح المسار, والبعض الآخر يلتزم الصمت وقد أصابه الذهول وخيبة الأمل وهو ينتظر فرصة للنجاة من هول ما رآه وما يتوقع من مصير غير محمود.

الفئة الثالثة: فئة السماسرة والمخبرين والبعثيين الكرد القدامى والطفيليين والانتهازيين الذين باستطاعتهم تبديل جلودهم كالحرباء مع تبدّل الأجواء والمناخات, هذه الفئة وبمجرد تغيير المعادلة السياسية السورية وانتقال موقع القوة من مكان إلى آخر وأفول سطوة الأجهزة الأمنية استطاعت بحنكتها الانتهازية أن تظهر لهفتها وتعطشها الوطني والقومي, وتباكيها على الكردايتي ودماء شهداء الحرية, واستطاعت بكل بساطة أن تحتل المواقع الأساسية والرئيسية لمصادر القرار الكردي وإدارة المؤسسات الاجتماعية والخدمية والاقتصادية والسياسية واتخاذ القرارات المصيرية وسدّ جميع المنافذ أمام تلك الإرادات الخيّرة والصادقة, هذه الفئة استطاعت وبقوة قادر وإرادات أمنية خفية ورغماً عن أنوف كل الوطنيين والمخلصين وأصحاب الدماء الذكية أن تستولي على مختلف مصادر قرارات إدارة المجتمع وليتها لو أدارت المجتمع بل بدأت بنهب مقدرات المجتمع وعلى مرأى ومسمع الجميع دون رادع أو واعظ ضمير.

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 36 بتاريخ 2016/2/1

13

 

التعليقات مغلقة.