وحشة.. حمام ورمانة يدوية

26

طه خليل1

زاوية يكتبها طه خليل

 

بعد سنواتٍ من الانقطاع عن المشهد الثقافيّ السوريّ والكرديّ، لأسباب كثيرة؛ منها انشغالي بالعمل الصحفي الذي أخذ مني الوقت الكثير، والضغط النفسي، حدث أنْ قررنا الصديق الشاعر أحمد حسيني وأنا بأن نقيم أمسية شعرية في بلدة قامشلي، وهذا ما تم.

في يوم الأمسية حضر جمهور نوعي- كما تبين لي- كتّاب وصحفيين على الأغلب، ولفت انتباهي أنّ القائمون على الصالة التي ألقينا فيها أشعارنا قد رتبوا الصالة بطريقة مسرحية محببة، جرار قديمة وأضوية، وبعض النباتات البلاستيكية –للأسف- وكرسيين لنا، وبعض تفاصيل صغيرة من التُّراث الكردي، مما أضفى على الجو رومانسية افتقدناها منذ سنوات عديدة، وصار الشعر والفن والقراءات في أذهان الناس مجرد شعر تعبوي يرفد الجبهات بمقاتلين متحمسين، ويلهب حماس ” الثوار ” ربُّما لبناء روجآفايي كردستان وتحقيق ديمقراطيّة تعدديّة ولا مركزيّة في سوريا… نعم، كل هذا يبدو أنه مطلوب شعريّا.

ولأنني أحب من الكتاب غابرييل غارثيا ماركيز، فلا أنسى ما قاله يوما ردّاً على سؤال عن الكاتب الثوري، إذ قال:” الكاتب الثوريّ هو أن يكتب بشكل جيد” ولأنّي أحب من النقاد عمرو بن بحر الجاحظ إذ يقول: ” إنّ المعاني ملقاة على قارعة الطريق، وإنّما العبرة في الصياغة”. فحاولت قدر المُستطاع أن أكتب جيدا، لا لأكون كاتبا ثوريّا، بل ليحب اصدقائي الشعر، وحاولت كذلك أن أجد عبرتي كثيرا في الصياغة، ولهذا لم يتم “الاعتراف” بي كشاعر للثورة.. يسير أمام الجماهير ويقودهم إلى كسر القيود وتحطيم الأصنام، ورفع راية كردستان عاليةً تخفق فوق الجبال والسهول.

التخبُّط السياسيّ الذي عاشه المجتمع الكرديّ طيلة سنوات القهر، أوجد حالة ثقافيّة مترهلة وأدب مكتوب فيه من السذاجة الفنيّة والترهُّل واستخدام الخطاب الأجوف لشحذ الهمم، حتى كاد جمهور الشاعر لا يختلف قط عن جمهور القائد السياسي، عين الأشخاص.. وعين المكان وعين الكلام، وعين الأيادي التي تصفِّق، وهذا ما جعلني أنفر من الأمسيات الشعريّة التي تقيّمها الأحزاب أو المؤسسات الكردية، لأنني لا أفهم كيف يمكن لقصيدة تتحدث عن عشبة تيبست من الشوق، أن تمر وحولها المئات ممن يصرخ بشعارات أدمت معدة الجماهير.

وحديثي عن أمسيتنا  “أحمد حسيني وأنا”  ليس من باب الدّعاية وقد انتهت الأمسية، بل ما أثار دهشتي أنّ هناك أناس استمعوا باهتمام، ثم طالبونا أن نمدد الأمسية، رغم الليل، وما حوله من قلق، فالناس تود سماع الجانب الآخر أيضا، الجانب الذي لا يستحضر الرموز السياسيّة، والوطنيّة، ولا يعدّهم بمبالغات ظريفة تنتهي لمجرد خروج ” الجماهير ” من صالة الاستماع، ومن مشكلات ثورة روجآفايي كردستان، وإعلامها أنّها تعتقد أنّ التحشيد الجماهيري للثورة يمكن أن يكون من خلال هرطقات وشعارات بائسة يطلقها فلان وفلانة تحت بند الشعر أو الغناء، فالقنوات التلفزيونية لا تذيع ألا أغانٍ عن الشهداء والحرب والوعد بالنصر – مع احترامي الشديد للشهداء بالطبع-  والراديوهات لا تذيع الا خطابات شعريّة معتقدة أن الجماهير تنتظرها لتنقض على الاعداء… وعلى طريقة: ” هرنا  وان ” Herne Wan  وهذا مما جعل الكثير من جوانب الحياة تتيبس، حتى كدنا ننسى الفرح، ولم نعد نعرف كيف نفرح حتى بتحرير بلدة من داعش مثلا، المرعب أنني دخلت مكتبا لأحد الموظفين في الإدارة الذاتيّة ولفت نظري تمثال صغير من حجر لامرأة عارية، وقد غطى -صديقي الموظف- صدرها بلصقة بلاستيكيّة، كي لا تظهر ثمار إنسانيتها، ذلك أرعبني. وجعلني على الفور اتصل برسولة روجآفايي كردستان، لأطمئن إنْ كان كل شيء على حاله عندها.! يا لوحشة الشاعر وهو يشبِّه صدر حبيبته برمانتين يدويتين هجوميتين مثلا.! ولا يعرف إنّ ثمّة حمام يغفو هناك وينشر السلام على الأرض.

نشرت في صحيفة Bûyerpress في العدد 35 بتاريخ 2016/1/15

111

التعليقات مغلقة.