وطنٌ أم ألبومُ صور..!؟
يعد الرأي العام من بين الموضوعات المهمة في حياة كل مجتمع لارتباطه بالحياة السياسيّة و الاقتصاديّة والاجتماعيّة، إذ لا يمكن تحقيق أيّة تنميّة أو أي إنجاز في أي من تلك الجوانب ما لم يتفاعل الرأي العام مع المتغيرات المزمع إحداثها في بنية المجتمع وما لم يتجاوب معها ويقبّلها ولأن دور الرأي العام في الحياة السياسيّة لا يقلُّ أهميةً عن دوره في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لأنّه هو الذي يعمق الثقة بين السلطة والمجتمع وبوساطته يسود القانون والاستقرار ويعمق الوعي والواقعية، لهذا فإن الرأي العام بات عرضة لمحاولات التشويه والتفريغ من محتواه في البلدان ذات الأنظمة الشمولية أكثر من غيرها لضمان بقاء السلطة والقرار في يد جماعة محددة دون سواها، فمحاولات تشويه الإدراك والرأي العام الجماهيريّ هي تحويل جميع المرافق والشوارع والمؤسسات في المجتمع لمعرض يتم فيه عرض صور “قادة، زعماء، سياسيين، رؤساء” معظمهم من الذين هم في موقع السلطة والحكم أو ضمن دائرة ونفوذ الحزب أو التنظيم الذي يحكم البلاد فقد بات تقليداً أو عرفاً لدى الأنظمة والحركات الشموليّة السلطويّة أن ترهق مسامع المواطن بشعاراتها وحتى موسيقاها وأغانيها وترهق في الآن ذاته أبصارهم بصور زعمائها في كل زقاق وشارع ومؤسسة حتى في غرف العناية المشددة بالمستشفيات، ذاك الزعيم أو القائد الذي ينسب إليه الفضل حتى في هطول الأمطار كذلك المعجزات التي تحققت على يدي حاشيته من فصيلة “السوبرمانات”.
فهذه الظاهرة هي أكثر انتشاراً في بلدان الشرق الأوسط ذات الحكم الشموليّ والحزب الأوحد، وبديهي فإن القارئ للفكرة سيعرج بخياله حتماً لدول وشخصيات بعينها دون سواها حسب المحيط الجغرافي والإعلام المتناول؛ دول وأنظمة مثل النظام السوري والعراقي والإيراني والتركي في تهليلاته وإرهاقه وإغراقه لمؤسساته الحكومية بصور أتاتورك، أما سوريا فكانت بمثابة ألبوم صور على امتداد جغرافيتها، تارةً تجد صورة للقائد يجسد فيها شخصية الفلاح الأول وأخرى يجسد فيها صورة العامل الأول.. سلسلة من الهوايات والإمكانيات التي يتمتع بها القائد صاحب الصورة دون سواه، الأمر نفسه ينسحب على إيران وصور الخميني المنتشرة في كل مكان حتى باتت كل الأمكنة والشوارع متشابهة لكثافة الصور والشعارات المرافقة لها، والمفارقة الجوهرية التي تكمن في هذه الحالة أن معظم الدول التي كانت تنتشر فيها هذه الظاهرة معظمها جوبهت بثورات واحتجاجات أظهرت حجم الاحتقان الداخليّ لشعوبها حتى على تلك الصور والتماثيل الموجودة في الحدائق فبادرت تلك الشعوب إلى تحطيمها في أول فرصة سنحت لها كما حصل لتماثيل وصور “صدام حسين” في العام 2003 كذلك في بلدان ثورات “الربيع العربي” التي أزالت الكبت وتلك المخاوف في الاقتراب من تلك الصور والتماثيل فوجدت في تحطيمها تحطيماً وكسراً لقيود العبودية والظلم الذي لحق بهم في ظل تلك الأنظمة وتماثيلها التي كانت زيادة انتشارها في البلاد مؤشراً ودليلاً واضحاً على زيادة منسوب الكبت وقمع حرية الرأي والتفكير لدرجة يمكن القول أن تفشي هذه الظاهرة تناسبت طرداً مع زيادة أعداد السجون والمعتقلات والملاحقات والأحكام العرفية بحق الناشطين والمختلفين فكرياً وحتى عقائدياً.
وقد بينت بعض النظريات في علم النّفس الاجتماعيّ وعلم الاجتماع السياسيّ؛ أنّه في كثير من الأحيان يتماهى المظلوم بالظالم والمُستبَد بالمُستبِد فيكتسب منه بعضاً من سلوكياته وممارساته حينما تسنح له الفرصة ويتبوأ مناصب سلطويّة وانطلاقاً من هذه الاستنتاجات العلميّة لعلم النفس يمكن الاستدلال وفهم أسباب انتقال عدوى هذه الظاهرة إلى الحياة السياسيّة الكرديّة التي تجسدت في الأحزاب الثلاثة الرئيسة الأكثر شعبية على الساحة الكردية فنجد ظاهرة إغراق المؤسسات والشوارع في المدن والبلدات الكردستانية بالصور والألوان والشعارات، الكل حسب مناطق نفوذه وسيطرته ولو قارنّا بين القيادات الكردية التي يتم تداول ونشر صورها بذاك الزخم كشخصيّات قومية ساهمت في إحياء الشعور القومي والنهضة القومية الكردية ثوريّاً وبين شخصيات ثورية أخرى ذات “كاريزما” قيادية على مستوى العالم، لوجدنا أن الكرد قاموا بعملية “التقديس” لأبعاد هذه الشخصيات لدرجة الإساءة لرمزيتها في كثافة تداولها وانتشارها بهذا الكم الهائل ففي بلاد كالهند التي تجد في شخص “المهاتما غاندي” منقذاً ومخلصاً لجميع مكونات الهند لكن لم يقم الشعب الهندي بتقديسه وتعليق صوره كما الحال عندنا نحن الكرد، كذلك نيلسون مانديلا و تشي جيفارا والكثير من الشخصيات والقادة العظام لم تحاول الشعوب والحكومات أن ترهق بلدانها بما فيها من مؤسسات بصورهم لدرجة تخلق حالة من الملل والاستياء.
وبما أنّ الإنسان هو ابن البيئة التي يولد ويحيى فيها فمن الطبيعي أن تتسرب إلى تكوينه الشخصيّ والسلوكيّ ما يجده من سياسات وأساليب شائعة في محيطه، إذاً من المتوقع أن تخلق مثل هذه الأنظمة التي تعتبر فيها الصور والشعارات مصدراً للقوة والسلطة، ويهمها أن تخلق مواطناً يمتهن الرياء والنفاق كأسلوب دفاعي من أساليب الدفاع عن الذات وحمايتها ومن المتوقع أيضاً أن تنتج هذه الممارسات أعداداً لا يستهان بها من المتسلقين والمستغلين لهذا النمط الذي تنتهجه السلطة فعادة ما يلجأ البعض في ظل سلطة الشعارات إلى استغلال حالة “البروباغندا” الشعاراتيّة السلبية هذه لتحقيق مكاسب شخصية وتجارية سواء أكانت بطرق شرعية أم غير شرعية أخلاقية أو غير أخلاقية والأمر لا يتطلب منه سوى إبراز بعض الصور والألوان والشعارات باعتبار أنّ الوسط المحيط يهيئ له ذلك وباعتباره يتنبأ بردة فعل الشارع والسلطة بشكل مسبق فالرخصة والحصانة بالنسبة لهؤلاء هو مدى الولاء الظاهري ولو بـ “أضعف الإيمان” فيصبح باستطاعتهم تمرير ما لا يمرَّر لسواهم.
في ظل حكم الصور والشعارات تتحول جميع وسائل الإعلام ومناهج التعليم ومعالم البلد لرواية يتم سردها يومياً أو روايات ليس فيها إلا بطل واحد تدور حوله أحداث الرواية وعلى جميع القراء والمستمعين حفظ تفاصيلها والإيمان المطلق بها دون شك أو ريبة فهذه الظاهرة تخلق أجيالاً ذو ذاكرة “فوتوكوبية” أجيالاً لا تتمتع بحريتها في الاختيار سهلة الانقياد.
بناءً على ما سبق يمكن القول أن المواطن يتلون ويتصرف حسب ألوان وتصرفات السلطة الحاكمة بسلبياتها وإيجابياتها وتكون ردة فعله مرتبطة بما يتوقعه من ثواب وعقاب بدلاً من الانجاز حتى في شؤون حياته اليوميّة وخصوصياته فيعمد في ظل تلك السلطة إلى تبني ما يرضي مزاجها وتوجهاتها ليتحاشى الاصطدام بردة فعل يخشى عواقبها.
لذا من الضروري لأية سلطة مهما كان حجمها وقوتها وموقعها أن تبدأ بنقد أخطائها في العلن وعلى مرئي ومسامع مؤيديها قبل معارضيها، لتنتج بذلك وعي وإدراك سوي حرٍّ جريء بعيد عن التلون والمحاباة والقوالب الفكرية المسبقة لذا على السلطة أن تساهم بإيجابيّة في تربية العقل و الفكر على مبدأ “التغذية الراجعة” وليس على مبدأ الموجه والمحدِد الوحيد لمخرجات العناصر وسلوكيات التي تطمح إليها فقط لتحصل في النهاية على رأي عام يساندها ويقومها في الوقت ذاته.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 35 بتاريخ 2016/1/15
ت
التعليقات مغلقة.