صفحة من ماضي أليم متجدد

157

12539940_1203053099709534_460092005_n
 ديار حاجي

قبيل يوم واحد من الذكرى الرابعة لانتفاضة قامشلو أدركت أنه في صباح اليوم القادم سنشهد تصادماً في الثانوية التي كنت أدرس فيها هكذا بدا لي قراءة المشهد الاحتقان لم يتوقف منذ الانتفاضة التي تلتها اغتيال الشيخ معشوق الخزنوي والنظام يتحضر للقانون 59.. التاريخ: 12-3-2008 المكان: ثانوية أبي ذر الغفاري في مدينة الحسكة المشهد: دقيقة صمت على روح شهداء انتفاضة قامشلو ثانوية أبي ذر “القلعة التي يصعب تسلّقها” أحدى أكبر المدارس الثانوية في مدينة الحسكة يتواجد فيها خيرة الأساتذة ويخرج من بين تلاميذها طلبة في كليات الطب والهندسة وطلاب أوائل على مستوى المحافظة لكن كنت أدرك من هيكلها وبنيانها – وأنا أجول ناظري على علوها- أنها لم تبنَ كي تكون مدرسة أو دور علم أسوارها العالية وبنائها كان أشبه بالسجن وهي بالفعل كانت سجناً بناه الاحتلال الفرنسي ..

العديد من الطلاب كانوا يروون قصص كثيرة عن وجود قبو كبير في الطوابق السفلية لا زال يستعمل كسجن.. على جدرانها كنت أرى العديد من القصص المخبئة فيها قد تختلف أحداها عن أخرى لك لكن بدا لي كلها مشهد واضحاً دوما.

بات واضحاً لنا أن هذا اليوم يشكل إحراجاً كبيراً للعديد من المدرسين الكرد في مدينة الحسكة وبالأخص في ثانويتنا، حيث كانت تقع في المربع الأمني وتتميز بالقبضة الأمنية المشددة العديد منهم ينتسبون لصفوف الأحزاب الكردية لكن رغم ذلك لم يكن يستطيعوا أن يقوموا بشيء في هذا اليوم معظمهم فقراء لايملكون القدرة على المجازفة بوظيفتهم الإقصاء من العمل لديهم وهو إقصاء من الحياة لهم ولعائلاتهم كان الحرج بادياً في عيونهم فلا يستطيعون منع الطلاب من الوقوف دقيقة صمت ولاهم بقادرين على الانضمام لهم أو إعطاء الإذن لهم لذلك كثيرون منهم كانوا يتغيبون عن العيون في ساعتي الظهيرة من ذاك اليوم. مع اقتراب وقت الظهيرة استطعنا الاحتشاد في ساحة الثانوية كان عددنا يزيد عن عشرين كان احتشادنا عفوياً الأهم عندنا كانت إحياء الذكرى وليس العدد الضخم من المشاركين …خشية منّا أن تتسبب الوقفة بأي إشكال مع إدارة المدرسة قمنا بالاعتصام في الساعة الحادية عشر ظهراً بمعنى أننا لم نحضر الحصة الرابعة من الدوام المدرسي وقبل وقت الفرصة الذي سيكون في الساعة الحادية عشر والربع كنّا نخشى من الموجه التربوي سابقاً كان يسمى “بمدرب الفتوة” والموجه الحزبي هذا الرجل الخطير لم يكن له أي صلة بالعملية التربوية بل كان له وظيفة إدارية ويكنى بالموجه الحزبي ومكتب خاص به نراه مرتين في السنة؛ مرة في بداية العام يجمع طلبات الانتساب للحزب ومرة قبيل المناسبات والمسيرات الوطنية أما في الحقيقة فهو كان ضابط أمني في المدرسة يخبئ شخصيته الأمنية خلف البدلة الرسمية والكرافات لكن شاربه الخفيف وصلعته وهدوئه الحذر تخفي كافّة مظاهره المدنية التي يختبئ ورائها أحاول دوما تذكر حركته الرشيقة التي قام بها وساعده في ذلك طوله الفارع وخفة وزنه ..كيف صادانا من الخلف بالفعل كانت عملية اصطياد دورانية المنحى تشابه احدى دالات الرياضيات – لكن للأسف- مؤشره البياني كان ينحو باتجاه مليء بالشوفينية والحقد الأعمى.

مع بدء اللحظات الأولى من الوقفة قام بعض الزملاء بترتيبنا في صفين استغربت لهذا الأمر وحرص بعضهم على أن يكون في الصف الأول لم أكن أملك وقتها أي جواب عن هذا الأمر …؟لكن لعلها الآن واضحة للكثيرين. فجأة حين أدركنا بوجوده وهو يأتينا خلسة من الجانب الأيمن وهو أيضا أدرك بمعرفتنا بقدومه حيث فصلت بيننا بضع أقدام قصيرات في مشهد درامي حاول أن يمد بكلتا يديه أقصى ما يمكن ليستطيع أن يحصر أكبر عدد من الطلاب الذين كانوا واقفين ولكي لا يقوم أحد بالتملص أو التراجع للخلف.. كان شكله كإنسان وجد كنزاً من الذهب يتسابق مع آخرين لحصد أكبر كمية منها… كانت مهمته صعبة للغاية …..وكان يدرك أنه لن يستطيع حصر الجميع بيديه الطويلتين لكنه في النهاية أمسك بسبعة من الطلاب وحفظ ملامح وجوههم أما البقية-  وكنت أنا منهم- فقمنا بحركة مخادعة وقدمنا إليه من الخلف كانت عيونه وهو ينظر إلينا ندرك فيها تماماً أنه يعلم أننا كنّا من الواقفين لكن سرعة المشهد حكمت على منطقية الفعل وهو الآخر كان يريد أخذ عينة وليس الجميع بعد ذلك قال للطلاب السبعة اذهبوا أمامي لمكتب الإدارة بعد أن حفظ تعابير الوجوه وحرص الموجه على أن يكون في الخلف وكنا نحن “من لم يسقط في فخه” نمشي خلفه كان القلق بادياً على وجهه لم أكن أدري لماذا كان يجد نفسه محصورا؟ فمن هم خلفه نفسهم من هم أمامه حتى وانْ فلتنا من قبضتيه بعد هذا المشهد سيطر الخوف على من تبقي منا أحاور أحد زملائي عن ما حدث أمامنا والقلق يغالبنا على رفاقنا وأنا أمضي لشعبتي وأثناء دخولي لباب الشعبة سارع العديد من زملائي للمضي نحوي في عجالة بدأ أحدهم بالقول لي في تهكُّم : ” لقد صنعتم كردستان بفعلتكم هذه أحسنتم ماذا تظنون أنتم فاعلون ….أما الآخر يقول لي أنتم تحاولون زرع فتنة بين الكرد والعرب أما الثالث يقول لي أنصحك بأن تغيب عن المدرسة عدة أيام ………وسط هذا الكلام كله الذي لم أكن أدري من أين يأتيني كانت كمرشات إطفاء الحريق انهالت علي كل هذه الأقوال دفعة واحدة، وأنا لا أملك أي رد كانت هذه الأقوال أقسى على قلبي من أي توبيخ أو ضرب ان كنت سأتلقاه للوهلة الأولى شعرت أنني مجرم في الوقت نفسه كان يحاورني ما تبقى من المنطق في داخلي ماذا فعلت حتى ألوم نفسي هكذا لم أقتل …لم أسرق …لم أضرب أو أشتم أحداً …فقط وقفت دون صمت .. ترى هل أصبح هذا جرماً ومنذ متى يُحاكم الإنسان على نيته.. بعدها بلحظات أدركت أن شيطاناً من الخوف يقبع داخل كل نفس كردية شيطان يأخذه لأماكن كثيرة قد لا يدرى هو نفسه أين هو علمت أن الكرد مشتتون أصدقائي الثلاثة لم يكونوا أناس عاديين كانوا هم الآخرون منتسبون لأحزاب الكردية تعتبر اليوم في المقدمة. يسيطر علي الخوف تارة وتارة اليأس …أصبت بالإحباط في نفسي وتأسفت على الشهداء… ترى لماذا يموت الإنسان من أجل الدفاع عن حقه ولماذا يطعنه أخوه في الظهر!؟ لا يزال رفاقي الثلاثة موجودون اليوم لكن أصبحوا كيانات وسياسات حزبية متبعة بشكل رسمي لم يكن كلامهم كلام إنسان عادي كان سياسة حزبية باتت معروفة اليوم لهذا السبب ضاع كل شيء وضاعته معه الذكرى وضاعت أجيال من الشباب فرقتهم فقط اختلاف الرأي وسلط عليهم النظام الجهل والجوع لتكون النتيجة كما نراها اليوم .

 إن مشهد زملائي الذين كانوا في التحقيق ورفاقي الذين كانوا يوبخوني ويأنوبوني قريب إلى واقعنا اليوم جداً لم أكن أدري أن موقفي الصعب هذا سيكون يوماً من الأيام موقف شعب بأكمله شعب لم يعد يدري ماذا يفعل مثلي تماماً… لكن يبقى الأهم اننا كسرنا حاجز الخوف في أبي ذر.

التعليقات مغلقة.