الفيسبوك وصناعة الأعمى

33

65945_10152574101277288_134270677773525072_n

 

 

 

 

 

إبراهيم الجبين

قرأتُ أن الشاعر الكبير الأعمش حصل بينه وبين زوجته نوعٌ من الوحشة والجفاء، فطلب من أحد الفقهاء أن يكلّمها ويقنعها ويصلح ذات البين، فدخل عليها الفقيه وبقي الأعمش يسترق السمع من خلف الباب فقال الفقيه للمرأة: “إن أبا محمد شيخ كبير، فلا يزهدنّك فيه عمشُ عينيه، ودقّة ساقيه، وضعفُ ركبتيه، وجمودُ كفيه”. فقال له الأعمش: “قبحك الله، قد أريتها من عيوبي مالم تكن تعرفه”.

 

وقبل أن تجتاح العالم العربي حمّى مواقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك والتويتر وكل وسيلة ممكنة معروفة وقادمة على الطريق، كان الناس يشكون من قلة التواصل، ومن أن بينهم وبين عوالمهم وحشة، وأنهم يا حبذا لو يتاح لهم أن يتمكنوا من مخاطبة رفاقهم وأصدقائهم والآخرين الذين سيتعرفون إليهم وينضمون إلى قوائم أصدقائهم، وأنه لو حصل هذا، فسترى العجب من قدرة السوريين والمصريين والسعوديين والقطريين والعراقيين وغيرهم على التأثير الإيجابي في المجتمعات، وكان ما كان، وتفجّرت تلك الطاقات عبر جسور التواصل في كل لحظة.

 

وكشفت تلك المواقع العيوب أكثر مما صنعت من مودّة، وظهر تطاول الناس على بعضهم البعض، وازدراء كثيرين للقيم وأصول التعامل، وظهرت المستويات المعرفية والثقافية على حقيقتها، وانحدرت اللغة عند كثيرين فهي إن لم تكن فاحشة فيها من البذاءة ما يجلب المزيد من الإعجابات فلن ترضي صاحبها، وبرزت الضغائن والافتراءات والعنصريات والطائفية، وشاع مناخ الكراهية وتهاوت أصول التواصل الاجتماعي الأساسية التي تصنع علاقات ناجحة بين الخلق.

 

على أن هذا لا يعني أن الفقيه لم يكن يقول الحقيقة عن الأعمش، التي كانت عينا زوجته مغمضتين عنها، وما ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي هو أخلاق الناس، الراقي منها والمنحط، فصاروا أمام مواجهة لا مفر منها، إما أن يغلقوا مواقع التواصل تلك أو أن ينشغلوا بتلك العيوب لإصلاحها وتحسين الجيد منها وطرد البذيء المتساهل، الذي يفجّر الإشكالات ويؤذي السلام بين الناس، وما كان يجري في الواقع على شكل همس ونميمة باطنية، صار ممكنا علناً وصار صاحبه يدفع ثمنه حتى في أروقة المحاكم.

 

و ما دمنا في مناخ العصرين الأموي والعباسي، فقد دخل يزيد بن منصور الحميري على الخليفة المهدي وعنده في المجلس بشار بن برد الذي ولد أعمى، والذي كان يفاخر بالعمى قائلاً: “عَميتُ جنينا والذكاءُ من العَمَى/ فجئتُ عجيبَ الظنَ للعلم موئلا”، فقال يزيد بن منصور:”يا شيخ ما صناعتك؟”، فقال بشار: “أثقب اللؤلؤ “. فضحك المهدي ثم قال لبشار: “أغرب ويلك أتتنادر على خالي؟” فقال بشار: “ما أصنع به؟ يرى شيخا أعمى ينشد الخليفة شعرا ويسأله عن صناعته!”.

 

والشيخ الأعمى ذاك، هو من قال:” يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُفَّاحةً مُفَلَّجَة/ أو كنتُ من قضب الريحان ريحانا/ إِنَّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ/ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا/ يا قومِ أذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقة/ والأذنُ تعشق قبل العين أحيانا”.

 

والحق أن حُسن الخطاب هو ساحة التواصل الاجتماعي سواء كان شعراً ينقله الحمام الزاجل أو “معلقة” على شكل ملصق في صفحة على الفيسبوك.

العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.