مؤتمرات الحل السياسي و استمرار أزمة الصراعات
قبل أي تحليل لأي مشروع أو مؤتمر أو طرح لحل الأزمة السورية، لابد أن نقف للحظات طويلة ونرسم المشهد السوري بخطوطه العريضة و البحث عن بداية هذه الخيوط، ثم وضع التعريف الصريح لجذر الصراعات كلها في لحظة البحث عن الحل اليوم والذي من أجله يتم طرح هذه المشاريع و تُعقد هذه المؤتمرات. لا يخفى أنّ الصراع السوري تحول الى صراع إقليمي في شكله الخارجي العسكري والسياسي لكن جذر الصراع وسبب انتقاله من أهلي سوري الى إقليمي هو لطبيعة هذه الصراعات، العائدة الى تشابه التركيبة الاجتماعية لدول الشرق الأوسط وتشابه بناها السياسيّة؛ وإن اختلفت في شكل ممارسة السلطة و تداولها .
لماذا حدث الانفجار؟ ولماذا عبرت الحدود ؟!..
مرّ العالم في الطّرف الأوروبي و الأميركي منذ بداية الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي الى موجات من الثورات الداخلية غيرت الأنظمة وغيرت المفاهيم الاجتماعية وقيم الحياة السياسية فيها، وانتقلت من شكل الى آخر وفقا لتغيرات السوق العالمية، و تطور التكنولوجيا و احتياج المجتمعات هذه الى نظام عالمي أكثر تبادلا و أقل خلافا و أعلى شراكة في قيم و مبادئ الحياة والسوق والعلم، وبالتالي في السياسة.
وبالنظر إلى العالم الثالث والشرق الأوسط خصوصا نجد إنّ معظم تلك الدول لم يحدث فيها أي تغيُّر سياسي أو تغيُّر نظم الحاكمة، بل أغلب تلك النظم تعود إلى عقود الحرب العالمية الباردة إذا ما استثنينا ” إيران ” و ” باكستان “؛ الوحيدتان المتغيرتان خلال تلك الفترة من نظام إلى آخر، المختلفان جذريّا ولكن ليس لتلك الأسباب التي غيرت الأنظمة الأوروبية والأمريكية، بالإضافة الى أنْ التغيير لم يحمل قيم ديمقراطية بل المزيد من التحكم والديكتاتورية، والسبب في بقاء هذه الدول خارج رياح التغيير هي التركيبة الاجتماعية المحكمة من قبل الأنظمة لتبقيها بشكلها الراديكالي القائم على مزيج ديني تقليدي حبيس قرون سابقه مع مزيج عشائري بدائي ذو متطلبات رجعية لا يهمها التغير الحاصل في العالم .
إنّ تراكم السنين و نظام السوق الاقتصادي و قوانين التجارة العالمية و حاجة العالم الغربي إلى الشرق الغني و الثورة التكنولوجية أيقظت شهوة الحياة في عروق الشعوب، فحدثت اليقظة على شكل انفجار داخليّ أخرج كل أمراض الماضي الطويل في وجه الحاضر المانع للتغير سياسيّاً وكون المجتمعات الشرق أوسطية إلّا أنها تعاني من نفس الأمراض باختلاف حركتها ومتشابهة في نظمها السياسيّة على اختلاف أشكال سلطاتها، فإن الصراع بدأ يأخذ شكله الطبيعي عبر خطه العابر للحدود وإن بدت بعض تلك الدول بأنها مستقرة لكنها على صفائح الاجتماعيّة معرضة للزلزال بأيّ لحظة.
فأصبحنا نرى :
الوجود الإيراني في سوريا ليس فقط بشكله السياسيّ الشيعيّ بل هو صراع ذاك الخط الاجتماعي الممتد من الست زينب في دمشق إلى قُم مرورا بالكوفة.
و الوجود السعودي في سوريا ليس فقط بشكله السياسي السنيّ المواجه للسياسة الشيعية بل هو خط الحجاز الممتد من دمشق إلى عمق الحرمين .
و الوجود التركي ليس فقط صراع السنّة والمال و السلطنة بل هو خط الفرات المنفجر من جبال كردستان الى شط العرب جنوب بغداد.
هو صراع الموت وفق استحقاق الموت وفقا لمعايير التعقيدات المتراكمة في إرث هذه الشعوب .
وهذا هو نفسه السبب المسبق لفشل كل مؤتمرات المعارضة في شكلها الإقليمي و في شكلها الدّولي لأنّها مبنيّة على نظرية سد الذرائع في سلطاتها وليس على استحقاق مواجهة المجتمعات ومشاكل الجهل الاجتماعي و إعادة حل مشاكل المجتمعات العابرة لحدود الدول الإقليميّة، فلا يمكن حل القضية الكردية في سوريا بدون حل القضية الكردية في تركيا ولا يمكن حل التطرّف و التعصّب السنيّ – العلويّ في سوريا بدون حل مشاكل التعصّب الطائفيّ في الفكر الاجتماعي الإسلامي بأكمله في الشرق ولا يمكن الوصول إلى مجتمع مدني دون نزع ثقافة التفضيل الإلهي لشعوب عن سواها، من هنا تصبح المؤتمرات شبه ميّتة قبل انطلاقها أو يكون المؤتمر في منحى آخر عن القضية المزمع إطلاق المؤتمر لأجلها.
مؤتمر الرياض :
ضمن كل هذه الخارطة المتشعبة للأزمة يُعقد مؤتمر الرياض في دولة إقليميّة تحمل وتملك كل تلك الأمراض التي فجرت الأزمة السورية لتحاول إيجاد صيغة وفق رؤيتها للحل في سوريا تدفع عن نفسها انفجار مشابه وتخدم سياستها في هذا الصراع الاقليمي فتستدعي أربعة تركيبات منقسمة داخليّا و متعارضة فيما بينها ومتهمة دوليا و منفصلة عن الواقع السوري و متهمة فيما بينها وهم :
– الائتلاف الوطني السوري؛ تلك التركيبة المنتفخة سرطانيّا لتناسب دوليا المجموعة الدولية المنخرطة في الأزمة السورية.
– هيئة التنسيق الوطنيّة المتهمة بالجلوس في حضن الأسد و المنقسمة في رؤيتها بين مكتب التنفيذي المتناقض وبين الأحزاب الغير متواصلة داخليّا.
– مستقلون ينتمون إلى جهات ومؤسسات و دوائر إقليميّة ودوليّة.
– جبهات عسكرية متهمة دوليا بالإرهاب منخرطة في المذبحة السوريّة وبغياب صارخ وواضح للمكون الكردي كتمثيل مستقل .
ورغم وضوح أهداف هذا المؤتمر سعوديّا – دوليّا إلا أن البرنامج التنظيمي و الأساس الذي بني عليه المؤتمر أوضح مدى بُعد المملكة العربية السعودية عن الواقعيّة و المعرفيّة في الوضع السوري و بنفس الوقت أوضح مدى الثبات و الإصرار السعودي على ارتكاب نفس أخطاء سياساتها في الأزمة السورية كما فعلت في اليمن و لبنان و مصر سابقا.
وهو غياب واضح عن الاعتماد على مراكز الدّراسات السياسيّة والاجتماعيّة تغذي مؤسساتها السياسيّة واعتمادها على استشارات أشخاص ليسوا – بالضرورة- على كفاءة وعلى تقارير أمنيّة في رسم خارطة المؤتمر ووجوه المشاركين، وجاءت النتائج متوافقة مع شكل التنظيم :
نجاح سعودي في إخراج المؤتمر بالشكل الذي يحقق هدفه في تشكيل جسم يمثله في مفاوضات الحل النهائي المزمع.
فشل سوري في إخراج منتج سوري معارض يمكن أن يُبنى عليه أي مشروع قادم، وتجلى هذا الفشل في خلاف منفجر منذ الساعات الأولى للجلسة الختاميّة بانسحاب مكون عسكري فاعل وأساسي على الأرض، وهم؛ حركة أحرار الشام، ثم انكار معاذ الخطيب لأي موافقة أو مشاركة في البيان الختامي و تشكيلاته السياسيّة المخرجة من المؤتمر، ليعيد التأكيد و التوضيح على أنْ الحل السياسيّ في سوريا لا يمكن إلا أن يكون إسقاطا للانفجار الاجتماعي السوري على الشكل السياسي و بناء سلطة و دولة وفق هذا الواقع الاجتماعي الحالي وليس صناعة سلطة و سياسة و نظام واسقاطها على مجتمع مكسور.
المجتمع المكسور كتركيبة بنيويّة ومكسور فكريّا واجتماعيّا حتى على مستوى الفرد و مشرذم على مستوى الانتماء ومن هنا في الجزئية الأخيرة تتجلى القضية الكردية .
القضية الكردية و غياب الرؤية السياسية الكردية و هوية الانتماء :
الكرد في سوريا شأنهم شأن المجتمع السوريّ بأكمله ولكن بصيغة سياسيّة اكثر وضوحا ؛ غياب الهوية و غياب الرؤية.
وغياب الرؤية السياسية الكردية هو مأزقها الداخلي “الكردي – الكردي“ وغياب هوية الانتماء هو المأزق الثاني “الكردي – السوري الاقليميّ”
المأزق الاول :
هذا المأزق أضاع الرؤية السياسية للكرد بين مشروع الإدارة الذاتيّة – الذي لا يملك ورقة عمل سياسيّ تقدم دوليا ولم ترتقِ سياسيا – كنتائج- إلى حجم النجاح العسكري والاعتراف الدوليّ بأهمية دورهم اليوم والأمس و على المدى القريب، ويعود هذا الفشل السياسيّ أو عدم قطف الثمار السياسية لتاريخ اللحظة إلى عوامل إقليمية و دولية، أيضا الى عوامل داخلية متعلقة بسياسات الإدارة المحلية و نهجها الإداري وغياب الأديولوجية الوطنية الكردية الموازية لحجم حركة التحرر الوطني وبقائها بعقلية الحزب- وبين المجلس الوطني الكردي ضعيف الولادة هزيل البنية خاوي داخليا بشخصياته غير وازن في حضوره مرتهن بملء ارادته وبحكم الظرف و السياسة.
يصنف البعض هذا الانقسام أنّه يعود الى الانقسام السوري بين المعسكرين كانتماء، وأنا أراه انقساما تكتُّليا ضيقا وليس اديولوجيّا لأن الطرفين يفقدان إلى رؤية فكرية ترقى الى اديولوجية وطنيّة ومشروع شعب. هذا الغياب الواضح للمشروع الكردي لأسبابه الداخلية والخارجية زاد الضعف في تواجده السياسي دوليّا، وساهم في زيادة المأزق “ الكردي – السوري”.
المأزق الثاني:
هذا المأزق المولود بسبب الارتهان السوري في تكويناته الأخرى، ففي غياب الهويّة الوطنيّة السوريّة تتصارع الأطراف السورية المرتهنة خارجيا في إظهار موقفها من القضية الكردية وفق رؤية القطب الإقليمي الممول لها و المحتضن لها، ولعل هذا هو سبب غياب الكرد عن مؤتمر الرياض الأخير، الغياب الذي أوضح الفرق الشاسع بين حل الأزمة و الحل السياسي.
الحل السياسيّ ليس بالضرورة حل للأزمة؛ أي اتفاق سياسيّ سيتم فرضه عبر المجموعة الدّولية على السوريين لن يكون حلّا للأزمة السوريّة بل سيكون مجرد حل لوقف الصراع وقد يكون وقفا مؤقتا ينفجر وفق تضخم سرطان الأزمة السورية المستقرة في بنيتها الاجتماعية فكريّا و بنيويّا، فالأزمة السورية تحتاج لحل سياسي يحاكيه وليس حل سياسي يتم اسقاطه على واقع اجتماعي منفجر فكريا فاقد لهوية وطنية جامعه لايمكن إعادة بناؤها بحلول سياسيّة تتناول السلطة و لا تتناول مصالح الشعوب السورية، هذه الشعوب الغير معترف بها لتاريخ اليوم من قبل السوريين أنفسهم و المُصرّين على أن الخلاف سياسي سلطوي. هذا الإصرار على الغلط هو نفسه مفتاح القرار على القضية الكردية سياسيا ضمن رؤية سوريا المستقبل.
أعتقد إن القضية الكرديّة أمامها أيام صعبة كما سوريا كمجتمع أمامه أيام صعبة تعادل اللامعقولية في الإصرار على التمسك بنظريات البعث الاجتماعي نفسها التي فجرت الأزمات مرارا.
أما داخليا كرديّا فلا حل إلا بإحياء المجتمع المدني كمحرك فكري و كحاكم حقيقي تفرز رؤيته الوطنية و تفرضه على الأجسام السياسية المعادية لتاريخ اللحظة لأي تغير اجتماعي حقيقي كردي، أمّا خارجيّاً فالقضية الكردية رهينة الزمن الكفيل بإعادة الثورات – واحدة تلوى الأخرى- في الشرق إلى حين خروج هذه المجتمعات من مراهقتها الإنسانيّة و الوصول إلى الزمن الحقيقي للحضارة والشعوب، حينها ستكون القضية محلولة في ميزان الظرف الزمنيّ وبجهود أبناء الكرد الواجب عليهم الاستمرار في بناء شخصيتهم كشعب يبحث عن الحياة باستقلال الذات و متحد مع حضارة الكل.
نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 33 بتاريخ 2015/12/15
التعليقات مغلقة.