وحشة: “لا أصلح للسياسة”

37

 

طه خليل كعادة أهلي ” المسلمين ” أزور أضرحة الشهداء كل يوم خميس.. أمر بداية بأبنتي الراقدة هناك، انحني لأقبّل التربة الباردة، وأمرر يداً ترتجف على شتلات الريحان هناك.. لأتراجع خطواتٍ للوراء.. وأجلس القرفصاء أراقب زوار الشهداء. وأرقب الرسولة كيف تحزن وكيف يحزن معها التراب.. ويمام الثكنة العسكرية هناك.! أمهات يفترشْنَ الأرض، يغطين أفواههنَّ بهباريهنَّ، يطأطأن ويبكين بصمت، أو يرددن بعض أغاني الحزن، وزوجات يقضين الوقت بين قبر الزوج وصنبور الماء على بعد أمتار وهن يجلبن الماء بقناني (كوكا كولا) ليرطبن تربة اللحد الحارة تحت شمس تموز، حركة وألم ,عيون حزينة هناك.. كل خميس…. بجانب كلّ قبر تتكوم عدة نساء وأطفال.. ( أغلب الزوار هم من النساء والأطفال ) ترى ألا يشتاق الرجال كذلك.. أم تراهم مشغولون.. فلا يأتون.؟ لفت نظري في المكان عدة قبور لشهداء في الطرف الجنوبي.. تظل وحيدة لا يؤنسها أحد.. ولا يمر بها أحد… ومذ عدة أشهر قررت أن أجلس هناك.. وكل خميس حين أقترب منهم أسمع من تحت التراب من يقول لي: شكرا.! في الطرف الآخر أجد قبرا، توقف الأهل عن زيارته شيئا فشيئا، ولم يعودوا يلتزمون بزيارات الخميس، وحدها الصبية ذات الشعر المجعد، والحزن الشفيف تأتي اليه وحيدة.. تقف هناك لأكثر من نصف ساعة، وهي تمسك بقلبها.. كثيرا ما رأيت قلبها كيف ينبض بيدها. وتقف رسولة الأرض هناك.. تساقط عيونها كل هذا اللؤلؤ الذي لا يعرفه أحد سواي.. الرسولة وحدها تؤجلني للحياة.! حنين: قضيت ردحا من عمري راع لأغنام ابي وعندما جاء من ” يبشرني ” بنيل البكالوريا وكان الأمر وقتها بشرى، كنت على ظهر حماري وخلفي قطيع غنمي اتجه به للسقي من جدول ” موتور آل ترزيباشي ” جنوب قريتنا، الحقيقة عندما سمعت خبر نجاحي لم أشعر بفرحة بل نظرت إلى نعاحي اللامبالية والتي قد طأطأت رأسها اتقاء للحر وهي تسير وراء الحمار بغريزتها المعروفة، شكرت المبشر واتممت سيري، في العشاء حين عدت إلى البيت لقيت أهلي فرحين منتظرين، فكانت أول كلمة قلتها لهم : يبدو أنكم ستحتاجون راع آخر بعد اليوم، وحصل ذلك.. سجلت بجامعة دمشق.. ودرست اللغة العربية وآدابها، وسارت مياه كثيرة في ساقية آل ترزيباشي.. وابتعدت وتنقلت في الكثير من البلدان والأعمال.. وكان حنيني الأعمق وحتى هذا اليوم العودة لرعي الغنم.. بدليل حتى الآن ورغم أنّني ” تأوربت ” لسنوات طويلة، وسافرت وتعبت واحببت وكتبت.. وحاربت.. فما زلت أتذكر وجوه ” مراييعي من النعاج” أكثر من وجوه النساء اللواتي احببتهن أو اللواتي احببني..أو وجوه سياسيين يعدون الشعوب بالحرية هو حنيني القديم يستفيق من جديد.! لا أصلح للسياسة.. ولا لتلفزيون يقدمني منقذا في المساء ” للمواطنين المتعبين “، ولا حتى لمعارك الكرد ضد بعضهم.. ولا حتى لرمي حجرة في الماء الراكدة.. هي وحشتي التي لا تنتهي. سأعود للغنم.. ولرائحة الصوف الحريف أثناء المطر.. سأعود لمراقبة الصعو وأعشاشها أسفل شجيرات الخرنوب و” العرن “، أعود كقياف أتتبع أثر أصابع القطا على تربة البراري للوصول إلى أعشاشها.. أعود لروحي التي ظلت هناك مخبأة تحت أكوام القش كطيور السمان ” المريعي” وأعود حراً مثل كبش يحرس النعاج من هجمات الذئاب.

 

 

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 31 بتاريخ 2015/11/15

 

 

تحقيق1

التعليقات مغلقة.