ريحانة.. في مهب الماء!

39
f87eb5aa49554356984b405602365806
عبدالسلام اليمني

للرجولة والفروسية صولات وجولات على أرض الشام، والبيوت الدمشقية عنوان وحدة الأسرة ودفء المحبة، وحديقة النافورة المتربعة وسط الدار الدمشقي تفوح برائحة الأزهار وتُمثل رمزاً لحيوية الحياة والولاء للطبيعة.

الحارة الدمشقية نشأت على تقوى البساطة والطيبة والتكافل الاجتماعي والتسامح، تحميها فروسية رجال دبغ الصبر جلودهم، وطَهّر النضال شواربهم من الاحتلال العثماني والفرنسي، ولكن مُصيبتهم جاءت من أبناء عشيرتهم .

وهي على قارب موت تتلاعب به الأمواج العاتية، لمحت عيناها من بعيد يختاً مُحاطاً بالحراسة فسرحت بها الذاكرة لصور يخوت طغاة الاستبداد، وأمواج صانع الأرامل تتناثر حولها مهزومة، ضعُفت أمام أهوال الخوف وبرز أمامها في لحظة الرّعب حُلم طفولتها المُطرّز بورد الشوم والمسحوق بحاضر فناء الأحلام.

الرّعب على الأرض فرض حالة انكسار المعادلة في قلب ريحانة ذات ٢٨ ربيعاً، فكانت الأمواج العاتية وقارب المطاط المُطل على صور الموت جرعة أمان شديد المرارة، لعلها تُحطّم الآلام على شواطئ غربة تحمل قساوة المعاني واللغة.

الأمواج عديمة الرحمة تتلاعب بعواطف الأمومة، وضحكات إيلان وغالب المحجوبة ببراءة اللهو لغة سماوية مبتسمة، يحاول فؤاد الأم القبض على قسوتها قبل انفجار صراخ طلب الغوث، كثرة أوجاع ريحانة في قلبها المكسور يُعبّر عن أمة مظلومة، خياراتها بين عذاب الألم وصمت خنوع الحرمان .

لم تكن أمواج صانع الأرامل العاتية أكثر عذاباً ورعباً في فؤاد ريحانة من براميل الحديد والدم والنار، كلاهما عاصفة صَمّاء، الأولى ثورة طبيعة قدريّة، والأخرى من صُنع شرذمة تربّت على صخور التوحش وانعدام الرحمة.

حطّم الخوف شرايين قلب ريحانة. حدّقت العائلة المكلومة بأجفان الخوف المرتعشة تبحث عن طوق نجاه، هرب قائد القارب المطاطي فقفز الأب عبدالله الكردي مُمسكاً بالمقود في لحظات المشهد الأخير. هدير الأمواج العالية أفقده السيطرة، فتدحرج غالب وتبعه إيلان، سمعت ريحانة صراخ ابنيها في الماء فتوقف قلبها المفجوع قبل اللحاق بهما، وبقي الأب يصارع من أجل البقاء، فحمل المأساة والدموع لعالم مشغول بالبحث عن تبرئة قاتل وإدانة مقتول!

سخاء ريحانة استجابة مُمتلئة بلذة حب وحنان وعاطفة، كيف لا وقد التصقت أرواح ابنيها بجسدها الطاهر تسعة أشهر، طَعِمَا وتنفسَا من رائحة الجنة. هربت حيتان البحر من هول الفاجعة، ذابت الأصوات في غرغرة الماء، ولفظت الأرواح أنفاسها، وتقلّبت الأجساد الطاهرة في مهب الماء، وقذفت الأمواج بريحانة وولديها، وذراعاها ممتدتان ترسم صراعها الأخير ومحاولاتها تحت الماء إنقاذ فلذة كبدها.

ارتاحي يا سيدتي ريحانة من هذا الزمن الرديء، آذار لم يعد آذار العشب الأخضر والأزهار الحمر، والصفر، والليلكية، والمياه الصافية، ولم يعد ورد الشوم ينبت في ربيع صحراء الشام، أصبح موصوماً بالعيب، ولن يعود الصيف مُبتسماً للشام، بل سيمُر باكياً موجوعاً، تستطيعين المتعة بالنوم الأبدي إلى يوم القارعة وما أدراك ما القارعة، وستكونين برحمة الله ريحانة في جنة الخلود وسيجمعُك الرحمن الرحيم بإيلان وغالب، وستكون النار الموقدة مصير كل مستبد وطاغية كفّار، كما وعد الله العزيز الجبار.

ليتك تعرفين سيدتي ريحانة ما فعله صغيرك إيلان بالعالم، جعل الله سبحانه بقدرته العظيمة سِرّه في أصغر خلقة، هَزّ عروش المستبدين والطغاة، وحبس أنفاس المسؤولين عن المنظمات الدولية، وأصاب رعاة القانون والمنظمات الإنسانية في مقتل، وأوقد الشّعر والأدب، وفرض قضية المضطهدين السوريين على أجندة الاجتماعات والمحادثات الدولية.

صغيرك إيلان يا سيدتي، حذفه الموج على هيئة أراد الخالق -جل شأنه- أن يفضح بها قوى الشر والاستبداد والطغيان، كان مبتسماً قبل أن يموت غرقاً، وكان بإرادة خالقه شجاعاً وهو يتمثل للعالم على الشاطئ مُنكباً على وجهه البريء الطاهر بالحزن والاحتجاج على فظاعة الجريمة.

صغيرُكِ سيدتي ريحانة اقتص من المُتخاذلين، وفضح المتواطئين، وطوّق زعماءهم بالْخِزْي والعار، وستبقى صورة إيلان عبدالله الكردي رمزاً موجعاً للأمة في ذاكرة التاريخ، كما كانت من قبلُ شهيدة الشام زينب الحصني، وجميلة الهباشي، ومحمد الدرة. وسنظل نبكي ونبكي ونبكي إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

 

الحياة

التعليقات مغلقة.