المرأة: الجسد وتجليات الأنوثة.

55

 

                                                                                                                                                                                               د. فريد سعدون

 

فريد سعدون
د. فريد سعدون

تتخذ صورة المرأة في الأدب تجليات عدة على نحو سلسلة من اللوحات والمشاهد، تكمل السيرة الاجتماعية عبر علاقة الذكر والأنثى، فالمرأة هي الصوت الآخر في ثنائية الخلق، ولكن معجمها مخترق بسطور من تدوين الرجل لتفوقه وتسلطه، ولعل ذلك له خصوصية التكوين الثقافي العنيد، الذي يبرهن على المنحى الذكوري السائد في المجتمع، فالمرأة ترتبط – إلى حد ما – في ذهنية الرجل الشرقي بالجسد، فالبيئة الشرقية تمتاز بالتعقيد والصراعات الاجتماعية التي أفرزت الفكر الذكوري وما شابَهُ من اضطراب وتوتر نتيجة لأوضاع المعاناة وموجبات القلق التي كانت تتحكم بالوسط الاجتماعي، لذلك فإن النظرة إلى المرأة تنبثق عن وضعها القائم في هذا الوسط، بيدَ أنه لا بد من البحث عن لحظات التنوير التي ترتقي بالمرأة إلى عالم الممكن، العالم المفعم بالفعل الإنساني المتمدن، من هنا تبدو المرأة متشظية على نفسها، فهي – من جهة – جسد منهوب، ورمز للغواية، ومن جهة ثانية، هي روح معذبة تكابد الآلام وتتوق إلى الانعتاق.

إنّ الغواية تعدّ فعلاً ذات بعد تاريخي وميثولوجي، ظهرت في القصص الديني: التوراة، أو القرآن(1)، وكذلك في الأساطير(2)، يتخذ الجسد فيه محور العلاقة بالمرأة، ويكون الباعث على اللقاء الجنسي، فتتكثف فيه دلائل الإغواء والإثارة التي تؤدي إلى التجربة الحسية، ويشكل بنية رمزية تنفتح على الأهواء والرغبات النفسية المكبوتة، وتدرك المرأة قيمته الإغرائية، بينما يحاول الرجل تجنب الوقوع في فخاخه، إلا أن الرجل المستلَب من قبل شهوته الجنسية واستعلائه الذكوري غير محصن ضد الغواية، فيقترف الإثم بإرادته، منطلقاً من استعداده السلوكي و مندفعاً وراء غرائزه الشيطانية الملتهبة في داخله، أو يستدرجه الجسد ويغويه بتضاريسه الفاتنة، من هنا قدر بعضهم إن: (( حذر الجنس المذكر واحتراسه من الجنس المؤنث تعبير عن خشية الرجل من حساسيته الخاصة ومن عواقب الإغواء، والمرأة من جهتها تشعر بضرورة إغواء الرجل دونما أي تردد، وباللجوء إلى كافة الوسائل التي يمكن تخيلها بغية جذبه ودفعه إلى ممارسة العمل الجنسي ))(1) .

فالجسد لا يبتعد عن تخوم الذات التي يحتويها، فالممارسة السلوكية تتبلور وتتوجه بناء على نداءات الذات، وعلى الرغم من أن الغواية وليدة لحظة انفعالية مفعمة بالرغبة الشهوانية، إلا أنها تأتي في سياق موضوعيتها المنبثقة عن الوسط الاجتماعي، وما تؤدي إليه الوقائع من تشكيل للمفاهيم والأفكار المناقضة لطبيعة الجسد الأنثوي، وتتضح هذه الآثار بنسب متفاوتة بين المرأة المومس، والمرأة الضحية، وفي كلتا الحالتين فإن الموقف من المرأة يكون بناء على نوعية الجسد وجمالياته، ومدى قدرة الرجل على استلابه، أو رغبة المرأة في عرضه، فيتحول إلى مرتكز دلالي له مرجعية واقعية، وإيحاء بالانتكاسة وصدمة التقهقر وسقوط القيم، مما يستدعي محاصرته ومنعه من التعبير عن ذاته: (( ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إنه من منطلق المرأة الآثمة جرى ويجري حصار جسدها، وإخراجها من التاريخ، وإبعادها عن كل ما له علاقة بما هو مجتمعي، واختصارها في المجال الذي يؤكد نعومتها و إغوائيتها، ووظيفتها كجسد يتحرك وفق رغبات الرجل ))(2) .

هذه النظرة تتحول إلى ثقافة عامة في المجتمع، مما يعني إقصاء المرأة عن الفاعلية الاجتماعية، وإلغاء دورها الإيجابي في بنائه، وحصر مهمتها في الناحية الشكلية الجسدية الذي يمثل فضاء الأنوثة الأرحب في الفكر الذكوري المتسلط، ولا يبقى الجسد في حدوده الملموسة بل يتعداها إلى نوع من الوعي الاجتماعي، لأنه أحد عوامل بناء التصور الفكري والثقافي، وملمحاً من ملامح الشخصية الإنسانية.

فالمرأة ترتبط بعنصرين دلاليين هما: المجتمع والرجل، وهناك علاقة هرمية تحدد المنحى الإشكالي الذي يعبر عن الحالة التاريخية المأزومة للمرأة، ليس في الدلالة الآنية لشخصيتها، وإنما في تكوينها الإنساني وتلاحمها العضوي مع سائر عناصر المجتمع، لأنها حسب الذهنية الذكورية تأتي في قاع الهرم، ولذلك فهي مضطرة للبحث عن كينونتها الذاتية بما لها من استقلالية وتميز، ولكنها تصطدم بجبروت الآخر / السيد الذي يدفعها إلى الاستسلام لقدرها المصيري المرتبط بنبض التاريخ في تحققه الزمكاني الذي يقف عند سطح المجتمع التقليدي، واختزل الواقع قيمتها في لحظة معقدة ومؤثرة ضمن إطار الجسد وجغرافيته المنكفئة على المقاطع الإغوائية، وانعكس ذلك في إذعانها لتيار المشاعر السلبية، وضمور العنصر الروحي والوجداني، والتأكيد على البعد الحسي، والانسياق وراء الشهوة في كسر المألوف والمعتاد، وإقامة علاقات جديدة هي نتاج الرؤية المنشغلة بالبرهنة على اختراق المحرم، والخوض في متاهات المفارقة المستسرة في الواقع، واستمراء الوقوف على مشارف التجربة المضمخة بنزيف القهر والاستلاب والظلم، ويمكن أن نلحظ أحياناً أن شخصيّة المرأة المومس شخصيّة خاصة, فهي امرأة تعرضت للاغتصاب اليومي بصوره المتعددة البائسة المريرة, من مثل الاغتصاب اليومي: الفكري والإنساني والقانوني, حتى عادت واستسلمت لكل أشكال الاغتصاب وراحت تستسيغ ممارسة بعضها, كأن تصبح مومساً..؟! ومن المرجح أنها استساغت طعم العهر والخطيئة بفعل ظروفٍ قاهرة، ولكن من جهة أخرى فإننا نرى في الثقافة القديمة قيمة مهمة للجسد تمثلت في الأساطير التي رفعت من شأن المرأة، وجعلتها مركز الخصب والانبعاث والولادة، فكانت فكرة الجنس المقدس، أو المومس التي وهبت أعضاءها لخدمة المعبد، في هذه الحالة كانت المفاتن تستحوذ على قيمة روحية ودينية أكثر من تعبيرها عن المتعة والشهوة، بل أصبحت تمثل أقصى حالات البعث والتجدد واستمرارية الحياة، وتحمل ابتهالات عشتار البوحية إفضاء بنزعة البقاء عبر الخطاب الجنسي المباشر: (( أما من أجلي ، … ، من أجل الرابية المكومة عالياً … لي أنا العذراء ، فمن يحرثه لي ، … ، الأرض المروية ، من أجلي … لي أنا الملكة … أحرث أرضي … يا رجل قلبي )) ([1])     فالمعنى لا تحمل دلالة مباشرة على المتعة الجنسية بقدر ما تشير إلى التماهي بين الممارسة الجنسية وفعل الخصوبة والإنجاب، ولكن ذلك المفهوم المقدس لا يستمر طويلاً، وما امتاز به أسلوب البوح من سلاسة وجمال معنوي وروحي، ينقلب إلى البوح عن الجدل المتفاعل مع معطيات الواقع الموبوءة بالشهوة وطغيان المتعة الجنسية البحتة، ويتغير الفعل من احرث ” في دلالته الواضحة على الخصوبة إلى الانسياق وراء القابلية السهلة للتواصل الجنسي الحسي عبر التوصيف الدقيق للمفاتن الجسدية، فتفقد الكلمات عذوبتها وشفافيتها الروحية، وتنسرب في حقول الفتنة والإغواء: (( ما أجمل رجليك، دوائر فخذيك مثل الحلي، سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج .. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوس، ثدياك كخشفتي توأمي ظبية، عنقك كبرج من عاج، ثدياك كعناقيد الكرم ورائحة أنفك كالتفاح، وحنكك كأجود الخمر )) ([2]). فليس ثمة تجليات روحية، بل المفردات مشبعة بالوهج الجنسي الخارجي، والمشهد برمته قائم على المنظر البصري المتكئ على الإثارة، وتمتلئ الذاكرة بهذه المفردات، من هنا يقترب النص من النهج الذي يستحدث علاقات متأرجحة بين الجوانب المعنوية وكثير من الملامح الحسية، حيث الحضور والغياب، والخصب والملذات. وفي البداية يقوم بوصف اللحظة في تعييناتها المرئية ثم ينكفئ إلى الداخل والسيرة التاريخية؛ ليترك أسئلة تتزاحم على حافات الدوافع والأسباب القريبة والبعيدة، في استفهام يرفد الرؤية ثراء وعمقاً.

وهنا يتمثل الخطر الذي يتهدد المرأة في تحولها إلى نموذج ينطوي على التقوقع في إطار حالة تاريخية بائسة، يبدو الخروج منها إلى أفق الخلاص أمراً عسيراً، وخاصة أن محاولات المرأة الذاتية في الانفلات من هذا الواقع تبقى ضمن تخوم سلطة الآخر، حيث تحاول المرأة أن تبحث لها عن وجود يحقق لها كينونتها المفقودة، بينما تنهال الصور المفعمة بالأجواء الإنسانية السلبية عبر النفي والتغييب القسري لملامح الأنوثة الموازية لمكانة الرجل وقيمته في المجتمع، وهي تعبير عن الحالة الأنثوية المشتتة والمبعثرة زمكانياً ، وعن حدة التناقض بين طرفي المعادلة: الرجل والمرأة. فيرقى التصعيد إلى قمته في نسق المفارقة عبر التضاد الجنسي. فالمرأة مختصرة جسداً تلحقها لعنة الإغواء والإثارة، وتذوب ماهيتها وتنصهر في شخصية الرجل، من منطلق الثقافة الذكورية السائدة بقوانينها ومعتقداتها السلطوية.

نشر المقال في العدد 25 من صحيفة Buyer  تاريخ 15/ 8 / 2015

 

(1) – قصة سيدنا يوسف في سورة يوسف.

(2) – أنكيدو في ملحمة جلجامش.

(1) – قريشاور، بول : الجنس في العالم القديم ، الجزء الأول ، الحضارات الشرقية ، ترجمة : فائق دحدوح ، دار الكندي، دمشق، ط1، 1988م ، ص 24 .

(2) – محمود، إبراهيم : مقال : الجسد والزمن، مجلة كتابات معاصرة ، بيروت، العدد 29، 1996م، ص 84 .

([1]) – س، كريمر : طقوس الجنس المقدس عند السومريين ، ترجمة نهاد خياطة، دار سومر، نيقوسيا، قبرص، ط 1، 1986، ص 64.

[2] – الكتاب المقدس : العهد القديم ، نشد الإنشاد ، د . ط ، 19877م ، ص 985 – 992 .

نشر المقال ف يالعدد 25 من صحيفة Buyer تاريخ 15 / 8/ 2015

التعليقات مغلقة.