وحشة: (ثقافة القونجك) زاوية يكتبها الكاتب: طه خليل

29

طه خليل

كانوا يحذروننا من التدخين ،” التدخين مضر بالصحة ، وقاتل ” وكان الرجال المتكؤن على الوسائد في مضافتنا الواسعة، يتبادلون فيما بينهم علبا معدنية، مليئة بالتنياك، يرميها الواحد باتجاه الآخر قائلا له: ” خذ .. لف واحدة ” فيتلقف هذا العلبة المعدنية، يضرب حوافها بيديه ضربات خفيفة، ثم يرفع عنها الغطاء، يأخذ ورقة من ورق السجاير يفرشها بين سبابته والابهام، ثم يملأها بالتنباك، ليلفها بلمح البصر، يبلل طرف الورقة، ثم يعضعضها قاصا منها قطعا صغيرة، ويلصقها فيما بعد، يضعها بين شفتيه، ليشعلها ويمتص منها نفسا طويلا، ينفث الدخان من فمه ومنخريه، ويعيد العلبة المعدنية لصاحبها، شاكرا إياه، على هذا الترحيب.

كنا نرمق الجالسين ونحسدهم على تلذذهم بالتدخين، كنا صغارا لم نتجاوز عقدنا الأول، لم نكن في وارد ان يقدم لنا أحد تلك العلبة، فكنا ننتظر انصراف الضيوف، لنهجم على ما تبقى من أعقاب السجائر المطفأة غرسا في التراب ( أرضية البيوت عندنا من تراب ) كنا مجموعات، نضع ما التقطناه من أعقاب السجائر في جيوبنا ونتجه الى بيت خرب في آخر القرية، هناك كنا نجلس، نفتح جيوبنا، لنبدأ بتفريغ الأعقاب مما تبقى فيها من التنباك، في حين كان صديقنا ” حمزو ” مكلفا بسرقة ورق السجائر من علبة والده، ونبدأ باللف ونفتخر ونتبارى بكيفية وسرعة لف السيجارة، كنا نتبادلها فيما بيننا ان كان صيدنا شحيحا من الــ ” قونجك ” كما كنا نسمي أعقاب السجائر، كلّ كان يمج منها نفسا ويناولها للآخر، وهكذا حتى تنتهي السيجارة.

وبما ان الأهلين كانوا يشكّون بكل حركاتنا ولا ينظرون إلينا إلا بعين الشك والريبة، وكثيرا ما كان آباؤنا يطلبون منا أن نفتح أفواهنا وننفخ في وجوههم ليكتشفوا أن كنا قد دخننا أم لا، وهنا أيضا أوجد صديقنا حمزو الحل المناسب:

ــ عليكم بالبصل، بعد السيجارة فليقرط كل منكم عضة من البصلة، عندها لن يشتم أحد من أفواهنا رائحة التدخين.

كان البصل من العدة التي لا تفارق جيوبنا، في القرية كان هناك ” بحمدو ” وكان مشهورا بلملمة أعقاب السجائر، أينما وجدها، وكان الناس يسمونه ” قونجكو ” وهذه تعني بالكردية صفة من يدخن من الأعقاب تلك، وكانت هذه الصفة ذما شنيعا، كنا نحرص أن لا يعرف أحد سرنا، ورغم أننا كنا جميعا ” قونجكو ” إلا أننا كنا نعزي أنفسنا بأن لنا مقاما أرفع من مقام بحمدو، فنحن لا نلتقط اعقاب سجائر ” حيالله ” بل بعد أن نعرف صاحبها ومن الذي دخنها، كنا نخاف من الأمراض، لا سيما وأنه كان في قريتنا بعض المصابين بمرض السل في تلك الأوقات.

ذات مرة أحضر لنا حمزو دفترا كاملا من ورق السجائر، وكان دفترا ” أصليا ” يسمى ” ورق الشام ” وعلى خلفية الدفتر مكتوب ” مصنوعات وطنية ــ بيروت ” وعلى الغلاف الداخلي لدفتر الورق كان هناك صورة تاج مكتوب على طرفيه ” فليحيا الوطن ” ثم هناك ” نص أدبي ” كدعاية لهذا النوع من الورق بعنوان: عضدوا مصنوعاتكم الوطنية، وهو على الشكل التالي:

” إليك أيها العربي الصميم، إليك أيها الحر النبيل، ورق الشام الممتاز على سائر الماركات وهو صاحب التاج المرصع بالنسبة لنظافته ونقاوته من كل غش، بعد جهود خمس سنين توفقنا لأحسن ورق مخفف لأضرار الدخان، لنخلصكم من باقي الماركات وسميناه بالشام تيمنا بعروس بلاد العرب، فيجب على من يحب أن يخدم وطنه وصحته أن يستعمل ورق الشام ”

اليوم.. وفي هذه الوحشة وحيث الحرب شرسة ضد الكرد، ضد دجاجهم وأغنامهم، وعصافيرهم ومستقبلهم وضد وجودهم.. تغلغلت ثقافة القونجك إلى الكثيرين، فأسسوا أحزابا، وصاروا أدباء وشعراء وفنانين، وتحول البيت الخرب إلى قاعة اجتماعات.. وكي لا يكتشفهم ” الآباء الجدد المعارضون ” وبدلا من قرط البصل تراهم يشتمون أهلهم.. أو على الأقل يتهمون المقاتلين الكرد بممارسة التطهير العرقي. وانقسموا فسطاطين، الأول يقاوم وبشراسة ويعمل لكرامة هدرت طويلا..وآخر يقدم لأحزابه وأشعاره ومجالسه ومعارضته تماما كما قدمت الشركة لورق الشام.!

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 24 بتاريخ 2015/8/1

التعليقات مغلقة.