الإتفاق النووي الإيراني وتداعياته الاستراتيجية

27

 

شوقي محمدبعد مخاض دبلوماسي عسير، دام أكثر من 21 شهراً تم التوصل في جنيف، في الرابع عشر من شهر يوليو الحالي، إلى إتفاق تاريخي، حول البرنامج النووي الإيراني بين القوى الغربية وإيران, يقلص من أنشطة إيران النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية والمالية والمصرفية والنفطية المفروضة عليه من قبل المجتمع الدولي. الأمر الذي سيعيد إيران إلى حضن الأسرة الدولية، ويشكل نقطة انعطاف تاريخية في منطقة الشرق الأوسط وفي السياسات الدولية المتعلقة بها. ليقسم تاريخها من الآن فصاعداً إلى الشرق الأوسط قبل الاتفاق النووي والشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي لما قد يتركه هذا الاتفاق من تداعيات هامة على الآفاق المستقبلية للمنطقة ويغير من شكل الصراعات فيه مستقبلاً.

وفي قراءة للأسباب المباشرة، نرى أن الإتفاق جاء رغبة من الولايات المتحدة الأمريكية بتخفيف أعبائها في منطقة الشرق الأوسط، وتحويل جزء منها إلى التركيز على منطقة حيوية أخرى في العالم وهي منطقة شرق وجنوب شرق آسيا. التي تشهد تمدداً ملحوظاً للنفوذ الصيني فيها من خلال ما بات يعرف باسم “استراتيجية عقد اللؤلؤ”.والذي تهدف الصين من ورائه السيطرة على نقاط الاختناق البحرية المهمة والمواقع الاستراتيجية غرب وشرق المحيط الهندي من خليج عدن مروراً ببحر العرب وليس انتهاءً بمضيق ” ملقا ” الأطول في العالم والذي تمرّ عبره يومياً أكثر من 40% من التجارة العالمية, الأمر الذي يهدد تقليص النفوذ الأمريكي في تلك المنطقة، ويمكن أن ينأى عنها بعيدة عن حلفائها هناك لاسيما اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. لذلك ارتأت ضرورة خلق توازنات جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط تساعدها على استمرار نفوذها وتفوقه عبر التنسيق مع أبرز القوى واللاعبين الأقليميين الخليجين من جهة، والإيرانيين من جهة ثانية, وفق سياسة ” مسك العصا من المنتصف” تميله بالاتجاه الذي يتوافق ومصالحها الاستراتيجية والحيوية في المنطقة.

أما بالنسبة لإيران، فقد شكل الاتفاق لها نوعاً من الهروب إلى الوراء. فالشروط التي قبلت بها إيران كانت قد طرحتها القوى الغربية منذ بداية المفاوضات. ولكن العقوبات الاقتصادية والمالية أرهقت اقتصادها بشكل رهيب, زاد من حدّتها الانخفاض الذي لحق بأسعار النفط منتصف العام الماضي مما تسبب  بانخفاض حاد في قيمة الريال الإيراني وتراجعاً في معظم المؤشرات الاقتصادية والمالية داخل الاقتصاد الإيراني؛ منعها من إحداث أي تطوير لقدراتها الإنتاجية والصناعية والتكنولوجية, وقوّضت من إمكانيات الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه لحلفائها في المنطقة؛ وخاصة النظام السوري الذي حصل وسطياً على 6 مليارات دولار سنوياً من إيران، شكلت نسبة 20 – 40% من مجموع ميزانية الدفاع الإيرانية لعام 2014. وقد راهنت الدول الغربية على ذلك، بأن تدهور الاقتصاد الإيراني وحدوث الأزمات الداخلية فيه من شأنه أن يقلل من حجم التدخلات الإيرانية في الملفات الأمنية في المنطقة. إلا أن ما حدث عكس ذلك منذ عام 2011 على قاعدة “إن الأزمات الداخلية بما في ذلك المشاكل الاقتصادية تولد السلوك العدواني في الخارج”.

وبعد استعراض لبنود الإتفاقية، أستطيع القول أن إيران رضيت بتأجيل العمل على إنتاج قنبلتها النووية مقابل عودة الحياة لاقتصادها المنهك تماماً. والذي سيتلقى دعماً قوياً من خلال زيادة الإنتاج النفطي وتطوير قطاعات إنتاجية جديدة ستدرّ عوائد مالية مجزية؛ وستجذب استثمارات بمئات الملايين من الدولارات إلى داخل الاقتصاد الإيراني، ستضاف إلى أرصدتها المصرفية المجمدة في الخارج والمقدرة بحدود 140 مليار دولار التي سيتم الإفراج عنها مع بدء سريان الإتفاق. الأمر الذي سيسمح لإيران بتوسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط ومد يد العون لحلفائها في سوريا والعراق واليمن ولبنان والبحرين. كما أن رفع الحظر الجزئي عن تصدير الأسلحة من إيران سيسمح لها بدعمهم عسكرياً.

وإثر توقيع الإتفاقية، تكون إيران قد انتزعت رسمياً الإعتراف بها كدولة نووية ولو لغايات سلمية. الأمر الذي سيؤثر بشكل كبير على الأداء الاستراتيجي للقوى الإقليمية الكبرى، لا سيما تركيا ودول الخليج العربي. حيث ستصبح إيران أكثر قدرة على رسم مستقبل المنطقة، بفعل الحصانة النووية والردع المستحدث، وإن كانت تملك برنامجاً نووياً سلمياً لتكون بذلك أحد أهم الفاعلين الأقليميين في رسم السياسات المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط. فالتقارب الذي جرى بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران سيؤدي إلى صياغة العلاقات الخليجية العربية – الإيرانية بما يتفق وحجم المصالح الأمريكية في الخليج؛ بشرط بقاء روسيا وإيران بعيدتين استراتيجياً. كما سيفرض على السعودية أكبر أقطاب دول الخليج، ضرورة التفاوض مع إيران، من أجل مستقبل المنطقة.

من جهة ثانية، لم تخفِ الولايات المتحدة الأمريكية نيتها العمل على تمكين دول الخليج العربي في مواجهة الجارة النووية الجديدة, من خلال بناء منظومات دفاعية حديثة لديهم، وتزويدهم ببعض الأسلحة الهجومية المتطورة لحمايتهم, مع بدء الحديث عن بداية تعاون روسي سعودي لبناء مفاعلات نووية سلمية. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد أمنت لنفسها دوام التحكم بمفاصل القرار السياسي الاستراتيجي في المنطقة الآن ومستقبلاً؛ من خلال خلق التوازن بين حلفائها الخليجيين التقليديين وبين حليفتها الجديدة إيران في المنطقة؛ بشكل يمنع تفرد أي من الطرفين بمسارات الأحداث والسياسات المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط.

وبسبب الأذرع الإيرانية الطويلة في معظم الصراعات الدائرة في المنطقة، سيترك الإتفاق انعكاسات متعددة على دول المنطقة، من خلال تسوية الكثير من الخلافات الإقليمية القائمة، وخاصة في سوريا والعراق، التي شكلت المرتكز الجيوسياسي لتحقيق طموحات إيران النووية.

من وجهة نظري، فإن الامتداد الإيراني في سورية لا يشبه الإمتداد الإيراني في العراق، فلطالما شكل العراق عمقاً جيوسياسياً لإيران، وساحة عملاقة لتحقيق سياساتها فقد كانت إيران وما تزال اللاعب الأقليمي الأبرز في إدارة الصراع داخل الجغراقية السياسية العراقية. لذلك لا شك أن تداعيات الإتفاق النووي لا بد وأن تكون إيجابية على الواقع الأمني في العراق.

أما في سوريا. فلا يمكن اعتبار إيران لاعباً دولياً هاماً في الصراع الدائر، كما باقي القوى الدولية الفاعلة على الأرض السورية، التي تتحكم بمسارات الأحداث الجارية فيها، بل يمكن اعتبارها لاعباً أقليمياً، وأداة دولية لتطبيق السياسات الروسية الصينية المتقاطعة جزئياً مع المشروع الإيراني في المنطقة؛ في مواجهة السياسات والمشاريع الأمريكية, كما تعتبر إيران الحليف العسكري والاقتصادي والسياسي الأول للنظام في سوريا, بسبب القرب الجغرافي منها، والتقاطع الأيديولوجي بينهما. وهنا يمكن القول، بأنه سيكون لإيران الآن التأثير القوي على مسار الأحداث في سوريا، ولكن ليس بعيداً عن التقاطع مع المشروع الأمريكي في المنطقة، الرامي إلى تفكيك الدولة الواحدة إلى دويلات. حيث يمكن أن يتقبل الأمريكان بقاء الأسد في السلطة، وهذا ما تؤيده إيران، أياً كان الثمن لضمان الحليف الاستراتيجي، الذي يسمح بوصول الدعم العسكري إلى حزب الله اللبناني. ولكن ضمن منطقة جغرافية محددة، تشكل واحدة من ثلاثة مناطق تسيطر المعارضة السياسية والعسكرية على ثانيها؛ بينما تخضع الثالثة لسيطرة الورد. إلا أن مثل هذا الأمر، يتعارض مع السياسات الأردوغانية التي لا ترضى بإقامة أية كيانات كردية وتحت أي مسمى على حدودها الجنوبية من جهة. ومع الرؤى الروسية حول مآلات الصراع في سوريا من جهة ثانية. حيث بدأت موسكو تتأهب بعد توقيع الإتفاق النووي، للعب دور واضح في فتح الخطوط والتفاهمات الجديدة بين طهران والرياض, بهدف إحداث تطورات في السياسة السعودية تجاه سورية وانخراطها في القوة الدولية لمحاربة داعش وباقي الجماعات الإرهابية المسلحة، وصياغة حل سياسي للملف السوري، دون اشتراط بقاء أو رحيل شخص بشار الأسد.

*أكاديمي متخصص في اقتصاديات الطاقة والنفط

 

 

نشر هذا المقال في صحيفة Bûyerpress في العدد 24 بتاريخ 2015/8/1 

التعليقات مغلقة.