وحشة.. الزراتكة

27

 

 11758960_1103674669647378_1579735929_nزاوية يكتبها الكاتب طه خليل لصحيفة Bûyerpress

كنا أطفالا في السبعينات نتلصص على الكبار في ” اودا مختار ” او مضافته وكانت عبارة عن غرفة فسيحة طولانية على الارجح ، ثمانية امتار طولا وحوالي الثلاثة عرضا، تفرش  طرفا المضافة ببسط من اللباد المصنوع من الصوف وكنا نسميه ” كلاف ” وتقطع عرضيا بزوجين من المخدات في كل مترين تقريبا، فيجلس الضيوف بينها ويتكؤون  عليها باسترخاء ظاهر، وهم يتبادلون علب تبغ حديدية مملوءة بتنباك يصل اليهم في الليالي على ظهور الدواب من تركيا المجاورة، ويتبارى الفلاحون، ضيوف المضافة طيلة السهرة بلف السجائر، والحديث عن جودة دخان هذا ورداءة تبغ ذاك، وكانت ليالي الشتاء بطيئة، وسرعان ما ينعس هؤلاء المتعبون فيعودون الى بيوتهم وهم يسعلون سعالا جافا في طريقهم بين المضافة والبيت المليء بالأطفال النيام، يصل الفلاح الى بيته فيدس اشياءه بين اشياء الزوجة النائمة في عتمة الوحشة والقهر المديد.

اما في ليالي الصيف فكانت المضافة تشع بنور” اللوكس”، فقد حصد المختار والفلاحون مواسمهم، وامتلأت جيوبهم بدراهم تفوح روائحها على الجوار، فتأتي عربات الغجر محملة بالخيام والسلاقي والأدوية والخرز، وفتيات يرتدين ثيابا فاضحة، بألوان صارخة، تتلألئ عليها صفيحات براقة، تلمع تحت شمس الظهيرة، وما ان يصل ” ظعن ” الغجر وكنت نسميهم ” حج فطوم “، الى اطراف القرية حتى نركض لنقترب منهم، نحدق بهم, بعين مبهورين ببراعتهم في نصب الخيام، وعين أخرى تلاحق فتياتهم الجميلات، وهن يضعن المساحيق والأصباغ التي لم نرها يوما على وجوه أمهاتنا أو أخواتنا، في هذا الأثناء كان رجال القرية مشغولين بحلاقة ذقونهم، والتعطر من عطور مخفية في صناديق زوجاتهم، عطور رخيصة تفوح روائحها من بعد كيلو مترات، وما ان يخيم الليل حتى تسير قوافل الفتيات يتبعهن رجل خصي اسمرقصير يسمونه ” ابو حشيش ”  باتجاه مضافة المختار، المرشوشة بالماء لترطيب مناخ ظل مكفهرا بائسا على مدى شهور، ويتوافد رجال القرية باستحياء بداية على المضافة، فيأخذون أماكنهم بين المخدات، وتتوزع الغجريات على احضانهم، فيتلوين من الهمس والضحك، ويمد الرجل يده الى المحرم، فتضربه بغنج : ان اسحب يدك كن صبورا. بعد ان يخيم دخان السجائر كسحابة في فضاء المضافة ينهض ” ابو حشيش ” ينطنط ويتقافز ويقوم بحركات بهلوانية وينشد اشعارا في مدح ” الغجرية ذات الفستان الأزرق” اذا لم تر العين مثل شهد شفتيها، اما ذات الفستان المخملي فلها صدر لا يصله الا الكرام والشجعان.. ويغمز لهذه، ويقرص تلك، ويسخّن الجو، ويكاد ” اللوكس ” ينفجر، وتكاد القطط المرسومة على سجادة معلقة على الحائط ان تهبط لتشارك بالسهرة، ويستمر ابو حشيش وكنا نسميه الـ ” زرتك ” بتسخين الجو، حتى تنهض الفتيات فتتمايل خصورهن على الرجال المندهشين، وهم يدلقون على صدورهن نقود موسم كامل. مقابل قبلة سريعة على خد الغجرية او لمسة من يد أحداهن، وكن يتمنعن حتى يفرغ الرجل جيوبه، و وحده “الزرتك ” كان مستمرا بالمدح والاطراء ولم النقود التي تتطاير في الفضاء.

كم من هؤلاء الزراتكة بدّلوا مهنتهم اليوم وصاروا يعرفون باسم كاتب وصحفي وكم من هؤلاء المخاتير أسسوا معارضات واحزاب سياسية، وكم مضافة صارت أماكن لمؤتمرات تتحدث عن فضائل الديمقراطية.

 

 

نشر في صحيفة Bûyerpress في العدد 23 بتاريخ 2015/7/15

التعليقات مغلقة.