كيف ستبدو منطقتنا في نوفمبر 2016؟
وسط «حرب الإبادة» التي يشنّها ما تبقى من النظام السوري على شعبه خدمة لـ«السيناريو» الإقليمي المُعدّ لمنطقة المشرق العربي، وهي حرب تتزامن معها الانهيارات المُتسارعة لمفهوم الدولة في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يغدو وضع لبنان مشهدًا جانبيًا في مسرحية طويلة.
أصلاً مَن يكترث للبنان إذا كان أولئك المفترَض بهم أنهم الأحرص على بقائه هم أول المفرّطين فيه؟ ولماذا الحرص على لبنان إذا كانت التسوية الإقليمية الكبرى التي قضت بتأسيسه كدولة مستقلة.. يُعاد النظر بجداوها عالميًا؟
المفترَض بهم أن يكونوا الأحرص على بقاء لبنان هم مسيحيّوه الذين حلموا دائمًا بكيان قابل للحياة في المشرق العربي، مع العلم أن ثمة مسيحيين لم يروا حاجة إلى مثل هذا الكيان من منطلق أن المسيحيين ليسوا ضيوفًا على جغرافية المنطقة ولا هم غرباء عن تراثها وتاريخها. كيف لا ولقد قامت قبل الإسلام مملكتان عربيتان مسيحيتان في جنوب غربي العراق وجنوب سوريا أسستهما قبيلتان يمانيتان هما لخم وغسّان؟ وفي العهد الإسلامي، عندما غزا الفرنجة الصليبيون المشرق العربي، وقفت بعض الطوائف المسيحية ضدهم، ولقد رفض المسلمون والعرب تحميل المسيحية كدين، والمسيحيين كمواطنين، مسؤولية تلك الحملات التي عرّفوها بـ«حملات الفرنجة».
في مُطلق الأحوال، بعد 1920 ولدت دولة «لبنان الكبير»، ثم أبصر لبنان النور كجمهورية مستقلة ذات سيادة «ذات وجه عربي»، بينما ذاب الكيانان الطائفيان الموازيان من حقبة الانتداب الفرنسي، وهما «دولة جبل العلويين» و«دولة جبل الدروز»، في ما بات الجمهورية السورية. بالنسبة إلى الأقليتين العلوية والدرزية كانت العروبة هويّة جامعة أكثر من كافية لطمأنة الأقليتين المسلمتين إلى العيش في دولة يشكل المسلمون السنّة أكثر من 70 في المائة من سكانها. لكن الوضع كان مختلفًا بعض الشيء في لبنان حيث لا تستطيع أي طائفة بمفردها الزعم بأنها تتمتع بأكثرية عددية، ولذا قامت الثقافة السياسية فيه على التوافق الهشّ والقبول الواقعي بالتعدّدية عبر التنازلات المتبادلة بين الكتلتين الدينيتين الرئيستين المسيحية والمسلمة.
استمرت هذه الحال حتى أسهم التفاوت العددي السكاني وتطوّرات المنطقة السياسية والأمنية في اندلاع الحرب اللبنانية بين 1975 و1990. وبعد هذه الحرب اقتنعت القيادات المسيحية الواعية بأن «وفاق الطائف»، الذي أقرّ المناصفة بغض النظر عن التعداد السكاني، وكرّس «الرئاسات الثلاث» (الجمهورية والبرلمان والحكومة) نصًا، ووزّع الصلاحيات في ما بينها، خير ضامن لمصالح المسيحيين على المدى الطويل. لكن ميشال عون، قائد الجيش يومذاك، أصرّ على رفض «الوفاق» من منطلق أنه أضعف موقف المسيحيين لصالح المسلمين السنّة – تحديدًا –، وبنى لنفسه على الأثر جماهيرية كبرى في الشارع المسيحي باعتباره قائد التحدّي المسيحي «لهيمنة المسلمين» و«بطل» تحرير لبنان من «الاحتلال السوري». واليوم، على الرغم من أن عون هو الحليف المسيحي الأول للنظامين السوري والإيراني في لبنان، فإنه يلوّح بالعودة إلى الشارع باسم «الدفاع عن مصالح المسيحيين» لرفض الحكومة تعيين صهره قائدًا للجيش، وهو يدفع المسيحيين إلى موقع مُحرج بينما ترتفع في الشرق الأوسط حرارة الاستقطاب بين النموذجين السنّي والشيعي لـ«الإسلام السياسي».
غير أن عون ليس وحده مَن يسيء قراءة الزّج بالأقلية المسيحية في معركة ليست معركتها، فثمة قيادات أخرى – سياسية ودينية – فعلت وتفعل ما يفعل، ما من شأنه زيادة التطرّف وإهداء الجماعات المتطرّفة صدقية لا تستحقها.
وهنا، علينا أن نتذكّر أنه في المنطقة العربية أدّى إصرار آية الله الخميني العنيد على «تصدير الثورة» والحرب العراقية الإيرانية التي فجّرها، ثم عودة المقاتلين الراديكاليين العرب إلى أوطانهم من أفغانستان، إلى إرجاع المنطقة عن مشارف الانفتاح. ولم يطل الوقت حتى دخلت حالة المزايدة في التطرّف والتطرّف المضاد، وأفضت إلى تفاقم في العداء نرى تداعياته اليوم استقطابًا بين الحالة الداعشية – القاعدية وحالة الولي الفقيه الكربلائية. هذا الاستقطاب الديني المذهبي كبّد وسيكبّد المنطقة أكلافًا باهظة، غير أن الخطاب الديني أو المذهبي الرائج يخفي بُعدًا قوميًا.
هذا البُعد يتجلّى راهنًا في خطين على مستويين مختلفين: الخط الأول على مستوى المواجهة المستترة بين تركيا وإيران، والخط الثاني على مستوى ارتباك حسابات الأقليات الدينية والعرقية. وما كان تبلوُر الشعور القومي – لبنانيًا كان أو سوريًا أو عربيًا – حِكرًا على المسيحيين، بل تعمّق عند المسلمين العرب كردّ فعل على النزعة القومية التركية في أواخر أيام الدولة العثمانية التي كانت خلافة إسلامية سنّية عابرة للقوميّات. ولم تكن إيران هي الأخرى غريبة عن نموّ المشاعر القومية، وهي التي حكمها لقرون كثيرة حكّام من غير الآريين الفرس.
اليوم تركيا وإيران بلدان كبيران لا تزيد نسبة المكوّن العرقي – اللغوي المُهيمن في كل منهما عن النصف، وبالتالي فكل منهما تدرك أن الهجوم خير وسائل الدفاع. وهذا يعني أن لا مجال لتقبّل الخسائر ولا بديل عن استغلال الآخرين في حرب نفوذهما الكبرى. وهؤلاء «الآخرون» موجودون وأثمان تضحياتهم رخيصة، سواءً كانوا العرب أو الأكراد أو ما تبقّى من أقليات لا تصنّف نفسها طائفيًا أو عرقيًا.
بالأمس، شاهدت خريطة لكيان «روجافا» (أو «كردستان الغربية») الممتدّ على طول الحدود التركية السورية الحالية، وهي على تماسّ مع «كردستان العراق». وكنت مثل غيري أقرأ في الفترة الأخيرة كثيرًا عن «سوريا المفيدة» في الجزء الغربي من سوريا مع عمقها اللبناني. وواضح الآن أن «داعش» مستقر الآن في القوس الصحراوي الداخلي للهلال الخصيب، في حين يتحوّل جنوب العراق تدريجيًا إلى قطاع إيراني.
لا أدري أين سيكون موقع المسيحيين ولا الأقليات التي تراهن رهانهم، لكنني أتصوّر أن استخدام «داعش» كمبرّر إنجاز الصفقة الأميركية الإيرانية خطوة خطيرة جدًا، كذلك خطير جدًا منع تركيا من الدفاع عن نفسها أمام نتيجة الصفقة.
بناءً عليه، هل لنا تخيّل كيف ستبدو منطقتنا بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) 2016؟!
الشرق الأوسط
التعليقات مغلقة.