التجربة الديموقراطية ومحاولة نسخها …!!؟؟
بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد عند تأسيس دولة المدينة (أثينا ) أما كفكرة فقد كانت موجودة فيما سبقتها من المجتمعات البشرية لكنها برزت بوضوح أكثر وذلك عندما اكتسبت صيغة دستورية تقليدية في أثينا في مطلع القرن الخامس قبل الميلاد ، غلبت على التجربة الديموقراطية الأثينية سمة الديموقراطية المباشرة ، بمعنى أن المواطنين يشاركون شخصياً في صنع القرارات الرئيسية للمجتمع وذلك بخلاف التجارب الديموقراطية المعاصرة والحديثة ، فإنها تتخذ أسلوب التمثيل النيابي فهي ديموقراطية غير مباشرة ، ويعود السبب في هذا الفارق بين التجربة القديمة والمعاصرة فهو كي تتحقق الديموقراطية المباشرة يفترض وجود تجمع سكاني ذو نسبة قليلة كما في أثينا في تلك الحقبة الزمنية وهذا ما لا يمكن تحقيقه في الوقت الراهن في ظل تزايد نسبة السكان التي تبلغ الملايين في الدولة الواحدة ، لذا فإن التجارب الديموقراطية تختلف من زمن لآخر ومن مجتمع إلى غيره ، والقصد من هذه المقارنة المختزلة هي جعل الديموقراطية كتجربة في إطارها التاريخي المرحلي والظرف الاجتماعي والسياسي في آن ، فلا يمكن بحال من الأحوال إسقاط تجربة ديموقراطية لبلد ما على غيره من البلدان على وجه البسيطة ، حتى البلدان التي تعيش تجارب متشابهة لا تلتقي في كثير من النقاط مع بعضها البعض فالتجارب الديموقراطية في القارة الأوربية تختلف عنها في القارة الامريكية الشمالية وإن التقت في بعض الخطوط الرئيسيّة ، فهنالك تفاوت في التجارب حتى في إطار القارة الواحدة .. !!
فالنروج والسويد على سبيل المثال تعتبران من أكثر الدول الراعية لحقوق الإنسان وتطبيق القانون بشكل عادل لا مثيل له في غيرها من الدول الاوروبية وعلى مستوى العالم ككل ، لكن هذا لا يعني أن الديموقراطية لا توجد في غيرها وإن لم تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه كلٌ من النروج والسويد ، فالديموقراطيّة في الدول التي تتبناها لا يمكن أن ننفي تطبيقها في تلك الدول بشكل كلي أو العكس لأن الديموقراطية تتصف بالنسبية في الوجود والعدم ، بمعنى أنها تنطوي على الدرجة صعوداً ونزولاً أي على مدى ما تتحقق فيها الأسس والمبادئ الرقابية التي يقوم بها الشعب على الحكومة ، كذلك المساواة السياسية والمشاركة الحقيقية في صنع القرار الجماعي .
فإصدار الحكم على بلد ما بكونه ديموقراطياً أو العكس ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الظرف الزمني الذي تمر به وكذلك الوضع الاجتماعي والحالة السياسية داخل الدولة وخارجها ، فالمرحلة الزمنية مهمة من حيث حالة الحرب و السلم التي تعيشها تلك الدولة فليس منطقياً مقارنة دولة أو مجتمع يعيش حالة الحرب وبين دولة تعيش لعشرات السنين حالة السلم والاستقرار السياسي ، كذلك الوضع الاجتماعي فينبغي معرفة عقلية المجتمع معرفة يمكن من خلالها إطلاق الحكم عليه إيجاباً أو سلباً ومدى إمكانية تجاوز السلبيات بطريقة التدريج في التشريع والقوانين التي من شأنها النهوض به وتجسيد هذه القوانين على صفحة الواقع ، لأن الأفكار والعادات والتقاليد ليس من السهل تغييرها بطريقة سحرية أو جعلها في إطار زمني محدد غير واقعي ، كذلك الأمر بخصوص الحالة السياسية والاتجاهات المتعددة والإيديولوجيات الموجودة في ذلك المجتمع فأيُّ تغيير غير منطقي أو غير مكترث بالواقع المعاش سيكون ذا تكلفة باهظة الثمن .
جاء في حديث لجاك شيراك لمجلة الإكسبريس الفرنسية / عدد تموز 1989 م /
<< إنَّ الديموقراطية التي تمارس في المجتمع أو المجتمعات الغربية لا يقدر المجتمع أو المجتمعات في العالم الثالث على دفع تكاليفها بل إنهم لا يملكون ثمنها >> .
بتقديري إن السبب الذي جعل شيراك يقول ذلك هو قناعته باستحالة نسخ التجارب الديموقراطية ، ولن أفسر مقولته من وجهة نظر سلبية وهو نظرته الدونية لمجتمعات العالم الثالث ، على أن تفسيري ينبع من وجهة نظر أراها أكثر ارتباطاً بالواقع فالأسس والمبادئ التي قامت عليها التجارب الغربية بعيدة كل البعد عن الحالة الاجتماعية والظروف التي مرَّ و يمر بها الشرق المنهك .
فأي تجربة قد يفكر بها مجتمع ما أو هو بصدد تطبيقها لن يكتب لها النجاح مالم تكن نابعة من الواقع بمعنى مراعاتها لعقلية ذلك المجتمع والمبادئ التي كونت هذه العقلية وأن تتماشى مع الظرف التاريخي والوضع السياسي الداخلي والخارجي فالتجربة الحقيقية لا تستخرج من بطون الكتب ولا باستيراد وصفات جاهزة ، فهي بالدرجة الأولى واقع معاش وتدرج في التشريع والقانون نحو النهوض بالمجتمع .
التعليقات مغلقة.