الاعتماد على الذات.. امتلاك قدرة التوجّه
جاك أتالي هو أحد الوجوه البارزة في مشهد الفكر الاقتصادي والفكري والأدبي الفرنسي. وبعد أن كتب كثيراً في الاقتصاد وتولّى مناصب عليا في هذا المجال، كما في مجال السياسة وفي الرواية والأدب والسيرة، يكرّس كتابه الأخير للخوض فيما يراه جوهرياً بالنسبة لامتلاك البشر للسبل التي تساعدهم على خطّ مسار توجههم من خلال «الاعتماد على الذات»، كما يقول عنوانه.
يبدأ جاك أتالي في الصفحات الأولى من الكتاب برسم صورة للعالم الذي نعيش فيه اليوم. ويحدد المعالم الرئيسية في هذا العالم أنه «من الصعب احتماله». والمشكلة أنه «سوف يكون أكثر سوءاً في قادم الأيام»، كما يؤكّد. ومن هنا بالتحديد يطلق المؤلف ما يشبه الصرخة التي يوجهها لمن يريدون الاستماع له، ويعتبرها نقطة انطلاق مفادها «تدبّروا أموركم».
ومن هنا أيضاً يخرج بنتيجة أساسية تمثّل الفكرة المركزية في تحليلات هذا العمل مفادها أنه حان الوقت كي «يبحث كل إنسان عن أفضل طريقة للاعتماد على نفسه» بعيداً عن «الانتظار إلى ما لا نهاية حلولاً لا تأتي بها المعجزات».
ولا يتردد في وصف مواطني بلدان المنظومة الغربية، وخاصّة فرنسا، أنهم «مستهلكون أنانيّون للخدمات العامّة التي لم يعودوا يتصورون تقديمها للآخرين». ويشرح أن «الاعتماد على الذات» ممارسة ممكنة ومطلوبة في جميع الميادين من عالم المشاريع إلى عوالم الفن الرحبة.
والتأكيد في جميع الحالات أن مثل هذا الخيار يتطلّب بالضرورة «قدراً كبيراً من الشجاعة».. يتم تحديد شرط تحقيق ذلك بـ«الإرادة الحقيقية للفعل وإعطائه الوقت للتفكير والتأمّل. ذلك أنه من الممكن في كل مكان أن يحقق البشر ذاتهم عبر الاعتماد عليها».
ويتوقّف المؤلف طويلاً عند تجارب شهيرة كان «التفتح الشخصي» و«الاعتماد على الذات» بمثابة مفتاح أساسي فيها. وفي قائمة المعنيين نجد ستيف جوبس وبابلو بيكاسو وبيل غيتس، والأب بيير الذي كان لسنوات على رأس قائمة الشخصيات الأكثر شعبيّة لدى الفرنسيين على أعماله الإنسانية، وتوماس أديسون، وغير هؤلاء في مختلف الميادين ممن نهضوا تحت عنوان عريض هو «الاعتماد على الذات».
ويشير إلى أنه لا يمكن اختزال «الاعتماد على الذات» إلى «الخروج عن القواعد» و«الهرب من الصعوبات». بل على العكس إنه يتطلّب مواجهة الصعوبات. ذلك أنه «أمام التحديات الصعبة يكتشف البشر مدى أهمية وضرورة اكتشاف ذاتهم». وكذلك اكتشاف ما يمتلك كل إنسان من إمكانيات كبيرة لا تحتاج إلى أكثر من التعرّف إليها وتحريرها «كي تبدع».
وما يطالب جاك أتالي به هو أن يطرح كل إنسان على نفسه أسئلة عمّا فعله في حياته «في هذه الدنيا»؟ ذلك أن قسماً كبيراً من البشر يكتفون بالعيش حسب النمط الذي يرسمه لهم الآخرون، بل والذي يفرضه هؤلاء الآخرون. بالمقابل يؤكّد المؤلف على «الشخصية الفريدة» التي يتحلّى فيها كل إنسان. ولا يتردد في القول إنه ينبغي على كل إنسان أن يتعرّف إلى ذاته و«يعتمد عليها» كي يطلق الطاقات الخلاّقة المجودة لديه.
ولعلّ في رأس «الرسائل» التي يوجهها جاك أتالي في هذا الكتاب، أنه ينبغي منذ الآن التحضير للمستقبل القادم. إذ إنه سيكون من العسير جداً مواجهة القرن الثاني والعشرين بذهنية وقواعد القرن التاسع عشر. بهذا المعنى يقوم بتوجيه الدعوة للجميع من أجل السير في طريق إيقاظ إرادة «الاعتماد على الذات» بالطريقة التي يشرحها على مدى صفحات هذا الكتاب.
بيان الإمارتيّة
التعليقات مغلقة.