عن المترجم الأيديولوجي / دارا عبدالله

36

بعدفهرس تفجر حركات التغيير السياسي- الاجتماعي في المنطقة العربية، ورغبة المجتمعات الأهلية بظروف حياة أفضل، عاد السؤال القديم الجديد للظهور على سطح النقاشات السياسية، «لماذا فشل مشروع الحداثة في العالم العربي». كتبت نصوص وفيرة في هذا الشأن، واختلف المشتغلون في التشخيص والعلاج، إلى حد تنضيدهم في مجموعات متخاصمة. ولكن نستطيع أن نميز تيارين أساسيين: الأول، يحمل أذهان الناس و «ثقافتهم العقلية»، المسؤولية الكاملة عن فشل هذا المشروع، وأصحاب هذا الطرح في العادة «علمانيون» أو «تنويريون»، يحيلون كل إخفاق بالضرورة إلى «الإسلام»، لتنتهي هذه المقاربات إلى مقولة شفوية شعبية معروفة: «شعوب جاهلة ما بتتطور»، أو تستقر إلى «أطروحات» تدعو إلى «تغيير المجتمع» كما طلب أدونيس. والثاني، ركز في كل اشتغاله على العوائق البنيوية الكامنة في الجملة النظرية الحداثية، كونها لا تقبل التعميم، وباردة الحرارة تجاه تفاعلات مجتمعنا الداخلية، إضافة إلى النزعات الاستعمارية الضامرة فيها. وأصحاب هذا الطرح في العادة «إسلاميون» أو «ممانعون»، إذ يحملون المسؤولية الكاملة لهذا الإخفاق إلى الآخر «الحداثي» بالضرورة.
ولكن بعيداً من هذا النقاش الكبير، ثمة زاوية معتمة مهمشة لم تأخذ حقها في الكشف والتدقيق والمراجعة، ألا وهي «الترجمة». كانت مناسبة كتابة هذا النص، اطلاعي على نقاش بين مترجمين ألمانيين، يتهم أحدهما الآخر بإحداث تغيير في محتوى أحد النصوص أثناء نقله من الفرنسية إلى الألمانية، وذلك بسبب المتهم من الحزب القومي الاشتراكي النازي، فعبث بروح النص، وغير مسلك وجهته العامة، كي يتعايش أو لا يتعارض أو يتوافق مع الأيديولوجيا القومية للحزب النازي آنذاك. أي أن لدينا نصاً فقد أسنانه الاحتجاجية أثناء نقله من لغة إلى لغة أخرى، وذلك بما يوافق شبكة العلاقات السياسية السائدة، في الراهن السياسي للغة المنقول إليها.
حسناً، لقد كانت أغلب النصوص المؤسسة للحداثة الغربية وليدة ثورات شعبية وحركات تغيير سياسية، أليس من حقنا أن نسأل: لماذا فقدت هذه النصوص كل قيمها التحررية وروحها الاعتراضية الاحتجاجية أثناء نقلها من لغاتها الأصلية إلى اللغة العربية؟. أليس من حقنا أن نسأل أيضاً عن التأثيرات العميقة للأيديولوجيا الترجمة في شكل عام، علماً أن هذه الإشكالية ليست خاصة بالثقافة العربية، إذ إن الكثير من النصوص العربية ترجم إلى اللغات الأجنبية بالطريقة نفسها، إي إخراج النص العربي من كمونه المحلي الخاص، وإخضاعه لإملاءات النظرة التنميطية الغربية الاستشراقية. بالتأكيد هذه ليست مرافعة اتهامية ضد جهود كثير من المترجمين التي تحترم، ولكن الإشكالية الفكرية العميقة تكمن في السؤال الآتي (مؤسف أن يكون سبب كتابة مقال كامل هو طرح سؤال واحد!): إلى أي حد يفلت النص، أثناء الترجمة، من الإملاءات الأيديولوجية القارة في وعي أو لاوعي المترجم؟ وليس المقصود هنا الأمانة المباشرة في نقل المعنى، ولا ضعفاً تقنياً في اللغة، فبالعكس يحتاج التحوير الأيديولوجي إلى تمكن لغوي عال. المقصود بالضبط قيادة الوجهة العامة للنص، وصياغة نفسه بما يلائم الأيديولوجيا السلطوية السائدة في واقع اللغة المنقول إليها، لأن الترجمة فيها جانب تأليفي يتسع ويضيق، والتأليف يحمل النص بالضرورة ذاتاً أخرى، وأي ذات هي انعكاس لواقع. والالتباس هنا دقيق.
«المترجم الأيديولوجي» لا يتحمل المسؤولية الكاملة لفشل مشروع الحداثة، وربما لا يتحمل أية مسؤولية، كما أن هذا الادعاء لا يحتوي على أدلة دقيقة لنصوص تحورت، فهذا الموضوع في حاجة إلى بحث وتقص جدي. ولكن ليست صدفةً عابرةً أن ترفع كل الأنظمة العسكرية الحاكمة (نظامي حافظ وبشار الأسد، نظام حسني مبارك، نظام القذافي، نظام زين العابدين بن علي) راية «الحداثة»، وأن تقوم برعاية وتمويل مؤتمرات علنية، وذلك تحت عناوين «حداثة- أصالة» أو «ظلامية- تنوير»، وذلك بشرط عدم الاقتراب من المعاش اليومي، أو بنية النوى السلطوية الحاكمة، علماً أن النشاط السياسي المعارض العلني ممنوع عند تلك الأنظمة. وتزداد الشكوك حو ل دقة تلك الترجمات، عندما نرى مواقف تيار من هؤلاء المترجمين من حركات التغيير التي اندلعت. فمنهم من التزم الصمت والحياد، ومنهم من اتخذ دوراً واضحاً ضد إرادة الناس.
على كل النتاج المترجم الذي أنجز في حقبة سيطرة الأنظمة العسكرية أن تتم إعادة النظر فيه من جديد.

عن الحياة

التعليقات مغلقة.