آفة الانتحال العلمي تفاقمها الإنترنت
هناك قصص طريفة رويت عن عالم الفيزياء الشهير إسحاق نيوتن. فعلى رغم أنه دخل تاريخ العلم بوصفة مكتشف الجاذبية، وواضع قوانينها التي نسفت فيزياء أرسطو بعد طول رسوخها قرابة ألفي سنة، ومؤلّف أبعد كتب الفيزياء أثراً في التاريخ الحديث، وهو كتاب «البرينكيبا/ المبادئ». إلا أن نيوتن كشخص لم يكن على مثل صورته كعالِم غيّر نظرة الإنسان إلى نفسه والكون من حوله، بل إن نظرياته في الفيزياء والرياضيات أثّرت في مشروع العقلانية وفلسفة الحداثة كلها. إذ عُرِف نيوتن بتوتره الشديد، وتعاليه المرّ، وبرودته حيال الآخرين وميله إلى المرواغة والتلاعب وغيرها. لعل أفظع ما روي عنه يتعلّق بإمكان استيلائه على جهود الآخرين علميّاً، بمعنى أدق، ميله إلى الانتحال علميّاً. بدأت المسألة بطريقة غير واضحة، بالأحرى كانت ملتبسة إلى حدّ ما، مع العالِم جون فلامستيد الذي كان يُمِد نيوتن بمعطيات كثيرة استند إليها الأخير في صوغه كتاب الـ «برينكيبا». وتنبّه فلامستيد إلى أن نيوتن يحتفظ بالفضل لنفسه، فاحتفظ لنفسه بمعلومات كان نيوتن يحتاجها. واستفز الأخير والتقط قفاز التحدي انسجاماً مع طبعه المتكبّر. واستغل منصبه في رئاسة «الجمعية المُلكيّة» كي يعين نفسه في المرصد الفلكي الملكي. ومع دعم من السلطة الحاكمة، عمد إلى الاستيلاء على معلومات فلامستيد، بل أوكل نشرها إلى عالِم الفلك إدموند هالي (نعم. هو من رصد المُذنّب الشهير المعروف باسمه)، وكان على علاقة سيئة مع فلامستيد. ورفع الأخير قضية أمام المحكمة مطالباً بمنع نشر أعماله المسروقة. وعلى رغم السطوة الهائلة التي كان يحوزها نيوتن، إلا أن القضاء حكم لمصلحة فلامستيد. لكن، سبق السيف العذل، إذ كان نيوتن اطّلع فعليّاً على ما يريد، فلم يؤثّر قرار المحكمة في وصوله إلى ما انتجه عقل فلامستيد. ونكاية بتلك المجريات، عمد نيوتن بكل لؤم إلى حذف كل إشارة إلى أعمال فلامستيد في الطبعات المتتالية من «البرينكيبا». وإذا كانت قضية فلامستيد فيها شيء من الالتباس في مسألة انتحال أعمال الآخرين علميّاً، فإن نزاعه مع عالم الرياضيات الألماني (وهو فيلسوف شهير أيضاً) غوتفريد ليبنيتز، كان أشد مكراً. فقد توصّل كلاهما في شكل مستقل، وفق رواية شائعة، إلى وضع مبادئ علم الرياضيات الذي عرف باسم التفاضل والتكامل (يعرف بالإنكليزية باسم «كالكولس» Calculus)، وهو من أركان الفيزياء الحديثة أيضاً. وثارت معركة مريرة بين الرجلين، لم تخل من اتهام نيوتن باستغلال منصبة على رأس «الجمعية المُلكيّة» للإيحاء بأنه سبق ليبنيتز في اكتشاف علم التفاضل والتكامل. والسبب في ذلك الاتهام منطقي إلى حدّ مذهل، إذ نشر ليبنيتز أعماله قبل نيوتن بسنوات. إلى أي مدى يصح القول إن نيوتن انتحل أبوّته لعلم التفاضل والتكامل؟ ثار نقاش مذهل في ذلك الوقت من القرن السابع عشر، عن تلك المسألة. ولكن المعطيات تتحدث عن نفسها، بصدد إمكان ذلك الانتحال، إذ عمد نيوتن إلى كتابة مقالات تدافع عنه، لكنه نشرها بأسماء أصدقائه. وبسريرة صافية، لجأ ليبنيتز إلى «الجمعية المُلكيّة» طالباً منها حسم ذلك الجدال. من كان على رأس الجمعية؟ نعم. نيوتن، لا غيره ولا سواه. شكّل نيوتن لجنة جاءت (يا للمصادفة) كلها من أصدقائه الخُلّص. ولم يكتف بذلك، بل عمد إلى كتابة خلاصة تقرير اللجنة بنفسه، وطلب من «الجمعية المُلكيّة» نشره. ثم كتب مقالاً يتهم فيه ليبنيتز بالانتحال، على رغم أن الأخير نشر أعماله قبل نيوتن بسنوات! جيل «قص – لصق» الأرجح أن مسألة الانتحال العلمي لم تبدأ مع التقنيّات المعلوماتيّة، وربما لا تنتهي معها أيضاً. ولكن، في الأزمنة المعاصرة تثور أسئلة مريرة عن البحث والنشر العلميين، خصوصاً أن تقنيّات المعلوماتيّة تستخدم بكثافة فيها. وباتت التهمة شائعة بالنسبة الى طلاب الجامعات الذين تحيط بأعمالهم ظلال من تهمة الانتحال العلمي والسرقة العلميّة، وعدم الالتزام بالأخلاقيّات عند الاقتباس وإعادة الصياغة. كما ترتبط سهولة الانتحال بتطور التقنيّات الرقميّة، على رغم أنّه كان موجوداً في كلّ الأوقات والعصور، بأشكال متعدّدة. وحاضراً، صارت حدود الانتحال متحركة ومائجة بمعنى أنها مضطربة وغير محدّدة فعليّاً. الأرجح أنه زمن جيل الـ «سي جنريشن» C generation، وهو يعتمد كثيراً على «النسخ/ اللصق» (Copy/Paste). الإنترنت يعطي سهولة في «النسخ/ اللصق» عبر الوصول السهل إلى المعلومات. من المستطاع تعريف الانتحال بأنه نسخ أو أخذ أجزاء من نص ما، مع عدم ذكر المرجع، كما يتضمّن اعتبار كلمات الغير وأفكاره ملكاً للمُنْتَحِل يتصرّف بها كأنها نتاج أصيل منه. ويعتبر الانتحال سرقة للمُلكيّة الفكريّة. في اللغة العربيّة، تشتق كلمة انتحال من الجذر «ن ح ل». إذ جاء في «لسان العرب» أنه «يقال: انْتَحلَ فلانٌ شِعرَ فلانٍ أو قَوْلَه (بمعنى) أنه ادَّعى أنّه قائلُه، وتَنَحَّلَه (تعني) ادَّعاه وهو لغَيرِه». هناك أنواع من الانتحال، وفق كونه يطاول نصوصاً أو صوراً أو موسيقى أو أفكاراً. ويجب التنبّه إلى عدم المزج بين الانتحال من جهة، وتوارد الأفكار وظاهرة التناص أي العلاقة المتشابكة بين النصوص، فيعتمد بعضها على بعض، وهي موجودة منذ بداية الكتابة.
الحياة
التعليقات مغلقة.