رعب أنقرة من الوعي الكردي
د. محمود عباس/ أمريكا
رعبٌ خفيٌّ يخيّم على أنقرة منذ أكثر من عقد من الزمن، رعبٌ يتجاوز حدود السياسة والجغرافيا، ويضرب في عمق البنية النفسية للنظام التركي.
لم يكن هذا الخوف وليد لحظةٍ عسكرية أو أزمةٍ عابرة، بل هو خوفٌ من فكرةٍ تتنامى في الوعي الجمعي الكردي، فكرة الحرية التي تستعيد الأرض والكرامة من بين أنقاض الإنكار.
أردوغان، وحكومته، ومعارضته القومية، يعيشون هوسًا دائمًا بكسر أي إنجاز كردي، فيجولون بين العواصم ويعقدون المؤتمرات، ويقدمون التنازلات الاقتصادية والسياسية تارة لروسيا، وتارة لإيران، وأخرى لأمريكا، بل حتى لسلطة بشار الأسد المجرم، التي ردّت عليهم بفظاظة حينها، ومع ذلك لم يتوقفوا عن محاولات الاسترضاء.
كلّ ذلك لأن الرعب الذي يسكن أنقرة ليس من قوةٍ عسكرية، بل من وعيٍ قوميٍّ صاعدٍ في غربي كردستان، يذكّرهم بما حدث في جنوب كردستان حين تحوّلت الفكرة إلى كيانٍ سياسي معترفٍ به دوليًا. الرعب التركي يتفاقم كلما حقق الكرد خطوة جديدة نحو الاستقرار والتنظيم، وكلما تعزّز الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، أو حين يتقاطع الحراك الكردي مع مصالح الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة. وما يثير الفزع أكثر هو أن التجربة الكردية، بخلاف ما يتمنّونه، لم تعد طارئة ولا هامشية، بل أصبحت تمثل واقعًا جيوسياسيًا جديدًا لا يمكن تجاوزه.
لقد ظلّ الموقف التركي من الكرد ثابتًا في جوهره وإن تغيّرت لغته، فحين دعمت أنقرة البيشمركة في الظاهر وسمحت لها بالمرور بأراضيها تحت الضغط الأمريكي للوصول إلى كوباني، كانت في الخفاء تموّل داعش لمحاربتهم، كما فعلت سابقًا مع الزرقاوي في العراق ضد الجيش الأمريكي، واليوم تكرّر الأسلوب ذاته ضد قوات قسد، مستخدمة أدواتٍ أكثر دهاءً، المرتزقة، والذباب الإلكتروني، والإعلام الموجَّه. فحين يعجز النظام عن مواجهة الفكر بالمنطق، يلجأ إلى تضليل الجماهير. وهذا ما نراه في حملاتٍ ممنهجة تردّد شعاراتٍ مثل “الكرد مهاجرون إلى سوريا” أو “نحن ضد قنديل لا ضد الكرد”، وهي عبارات تكشف جهلًا بالحقائق التاريخية، فـقنديل وقامشلو وكوباني وعفرين ليست إلا أسماء مختلفة لوجهٍ واحد من كردستان، ومن لا يعترف بهذا الوجه إنما ينكر مرآة ذاته في التاريخ.
وحين ينجح الكرد في تحقيق إنجازٍ سياسي أو اقتصادي في غربي كوردستان، تسارع أنقرة إلى مقايضة مصالحها الدولية، فتتنازل عن اتفاقاتٍ اقتصادية أو تفتح خطوط حوارٍ غير متكافئة مع أمريكا أو روسيا، فقط لإعاقة ذلك النجاح. حتى العداء التاريخي بينها وبين إيران تلاشى مؤقتًا حين وجدت فيه وسيلةً للتحريض ضد كردستان الجنوبية، وساهمت في دفع الحشد الشعبي لمهاجمة الإقليم بذريعة “الدفاع عن التركمان”، وهي الذريعة ذاتها التي تستخدمها اليوم لتبرير احتلالها أجزاء من سوريا والعراق، تحت شعار “حماية الأمن القومي التركي”.
يعرف أردوغان أن مصير تركيا مرتبط بمصير سوريا المقبلة، فإذا تحولت سوريا إلى دولةٍ اتحاديةٍ تعددية، فستُجبر تركيا على مواجهة حقيقتها الداخلية، وستكتشف أن فكرة “العرق التركي المتفوق” لم تكن سوى قشرة سياسية تخفي تعددًا إثنيًا وثقافيًا عميقًا، ولا تخفي تركيا هذا الهاجس والرعب من قادم الكرد في سوريا، كما ونقلته إلى الحكومة السورية الانتقالية وبعض دول المنطقة. ولذلك يعادي أردوغان الفيدرالية لأنها مرآة تكشف هشاشة الإمبراطورية التي يحلم بإحيائها. إنه يخاف من المستقبل لا لأنه مجهول، بل لأنه يحمل الحقيقة التي أنكرها قرنًا من الزمن، أن تركيا ليست دولة عرقٍ واحد، بل وطن شعوبٍ متعددة، وأن الكرد ليسوا غرباء فيه بل جزء من جذره التاريخي.
الرعب الذي يسكن أنقرة اليوم ليس من حدودٍ قابلة للخرق، بل من فكرةٍ لا يمكن محوها، إنهم يخافون من الكردي لأنه أصبح وعيًا، من الحرف الذي يكتب تاريخه، من اللغة التي تصرّ على البقاء، من الأغنية التي لم تعد تُغنّى سرًا.
التعليقات مغلقة.