رحلة البحث عن الحقيقة العارية: «الكتابة» ضرورة الفن وسؤال الميتافيزيقيا!

54

الذالتقاطاكرة الإنسانية بكل تجلياتها ورموزها وخيالها وعاطفتها المفخخة بالتصورات والهوية والآيديولوجية مرهونة بفعل الكتابة كأرشيف حضاري وثقافي للوعي الجمعي والفردي للبشرية، وهكذا كانت عبارة محمود درويش الكونية جرما ملتهبا يثقب سماء المصابين بداء الكسل الخيالي والإبداعي حين قال: «من يكتب حكايته يرث أرض الكلام، ويملك المعنى تماما».
يروي المترجم الإنكليزي والقسيس الموسوعي بيد، حكاية ترنيمة كيدمون- من أقدم القصائد الغنائية في الأدب الإنكليزي القديم – إذ يؤكد بيد أن كيدمون كان راعي بقر أمي لا يقرأ ولا يكتب. ويضيف بيد أنه أثناء حضوره لوليمة كبيرة، تم تمرير قيثارة على الحضور ليغني كل منهم أغنية يشارك بها طقوس الوليمة، إلا أن كيدمون توارى عن الحضور خجلا من عجزه عن الغناء وعدم تمكنه من القراءة أصلا. وفي المساء جاءه منام رأى فيه أحدهم وطلب منه أن يغني أغنية النشوء والتكوين، فرفض كيدمون الغناء، لأنه لا يعرف القراءة والكتابة، فكرر الرجل عليه الأمر مؤكدا له قدرته على الغناء، ففعل ودهش أنه قادر على سرد أغنيات التكوين والنشوء بصورة لا تصدق. وفي الصباح روى حلمه لرجال الكنيسة ودهش الجميع بما أخبرهم عن قدرته على سرد قصة التكوين والنشوء والسرد الإنجيلي فتم تعيينه قسيسا. ويروي بيد أن غاية كيدمون من هذا السرد الغنائي كانت حث البشرية على عدم التشبث بالخطيئة ونشر بذور الخير على البسيطة. وهنا تتربص بنا كومة من الأسئلة الثيولوجية والأنثولوجية والجمالية، ولعلها من أبجديات ما يخطر ببال كل من يقرأ ترنيمة كيدمون: ولكن ما علاقة الدين بالشعر والأدب عموما؟ وما علاقة الغناء بالكتابة؟ وكيف يلتقي النص الشعري هنا بالنص الثيولوجي؟ وما سر الوحي الذي زار كيدمون في منامه وعلاقته بفعل القراءة والكتابة وفهم التكوين والنشوء؟
يبدو جليا أن المخيال الإنساني منذ باكورة البحث الفلسفي عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود والذات والماورائي، ظل رهينة التقاطعات الثنائية للخيال الإبداعي، والخيال الديني والخيال العلمي، وهنا تعددت التأويلات لكل الأفهام البشرية في سبرها لأغوار الذات والمخيال البشري، وفي محاولتها لمجابهة سؤال الحياة والموت والجمال والنفس البشرية المركبة. قد تكون ملحمة جلجامش محاولة تشبه ترنيمة كيدمون، وسفر التكوين والإنجيل والتوراة والقرآن في تشريح بينة الوجود والأبدية والعدم والمطلق والزمن والصيرورة المركبة للتقاطعات التي مرت بها التجربة الإنسانية في تحولات المخيال الشعري والديني والعلمي والوجودي. التحولات التي صفع بها جلجامش بعد موت صديقه الحميم أنكيدو، كانت نقطة التحول الجوهرية في مخيال تاريخ البشرية، أمام قدرتها على مقاومة الموت ومواصلة الحياة وفهم سؤال العدم، بل وفي قدرتها على التنبؤ بارهاصات الثورة المعرفية التي تمر بها البشرية. يصاب جلجامش بخيبة مرعبة بعد موت أنكيدو، حتى أنه يرفض دفن الجثة في البداية، إلى أن تتفسخ الحقيقة المادية والجسدية أمام ناظريه ليدرك هشاشة الوجود البشري أمام الموت والماورائي، ويبدأ في رحلته النيتشوية للبحث عن سر الخلود، فيهيم على وجهه تاركا وراء أسوار أوروك ثيابه الملكية مرتديا جلود الحيوانات، وكأن الصورة الوحشية للإنسان تكون في أبهى تجلياتها الطبيعية عندما يتماهى الإنسان مع الطبيعة في شرطه الوجودي وشرطه البشري، حتى ينتهي به المطاف أن يرجع بخفي حنين، مدركا عبثية المحاولة، ورعب التجربة البشرية في المضي عكس تيار الزمن. لكن جلجامش نقش كل ما رآه في رحلته على حجر الكتابة، ليدون خلودا جماليا وملحميا لا يمكن لساعة الزمن أن تمحوه! الشيء نفسه فعله روكنتان، بطل رواية سارتر «الغثيان» الذي كان مصابا بحساسية وجودية مرعبة، حتى أنه كاد يتقيأ لدى رؤيته لجذع شجرة، وخلص إلى الخلاص المرهون بالمخيال وفعل الكتابة كفعل جمالي يجابه العدم والفناء، فكانت الكتابة في كل تجلياتها الفنية والدينية طريقة الآلهة والبشر للتواصل بين الوجود والعدم، وبين المقدس والمدنس، وبين البشري واللاهوتي، وهذا يحيلنا مرة أخرى لترنيمة كيدمون والصورة التي تقاطع فيها الشعر بتفسير الوجود والكون والطبيعة الثيولوجية للأشياء.
وفي سياق حديثنا عن ترنيمة كيدمون، لا بد لنا من التوسل بعبارة صامويل بيكيت الخالدة في تعريفه العبقري للشعر: «كل صنوف الشعر كانت محض صلاة لا علاقة لها بالفضيلة المتعالية». الصلاة مناجاة بين العبد وربه، وبين النص وقارئه، وبين المعشوق ومعشوقته، وهذا جلي في شعر ابن عربي والحلاج في طرقهما اللامنتمي لسؤال الصوفي الباحث عن الله في نفسه، وعن نفسه في الله! يبدأ السؤال بالذات التي توهب لهذا الوجود، ثم تبدأ غريزة الخوف تولد مع الإنسان في خضم محنته الوجودية عندما يشب عن الطوق، ويكتسب وعي الباحث عن منفاه الأول والمتأمل في سقوط أبويه آدم وحواء من أرض عدن، ماضيا في طريقين ثالثهما امتداد لثنائية حاول نيتشه أن ينقض بنيانها في «ما وراء الخير والشر: الإيمان واللاإيمان. لا يمكن تجاوز كتاب ماثيو أرنولد الشهير، الموسوم بعنوان « الأدب والدوغمائية» الذي استنطق من خلاله ماثيو آرنولد أنساق النصوص الدينية في دفاعه عن الثقافة في مجابهة تيار المادية العلميةـ التي اختزلت النصوص الدينية في ثنائيات محنطة من التأوليات الثابتة للنصوص المقدسة، بعيدا عن قدرتها التوليدية والجمالية أمام سؤال الوجود والمحاكاة. هنا نجد عبارة صامويل بيكت تتناغم بصورة ديالكتيكية مع دفاع آرنولد عن الثقافة كفعل متعالق مع النسق الأخلاقي للأدب. الشعر الذي يتحول إلى حالة تعبّد جمالية، يحاول الشاعر من خلالها إحداث هزة موسيقية وتصويرية وتجريبية في الشكل الداخلي للقصيدة بعيدا عن النمطية اللغوية الدوغمائية التي يمارسها رجال الدين الكلاسيكيون في تحنيطهم للتأويل الديني، وهنا يصير الشعراء على لسان بيرسي شيلي مشرعي الأمة غير المعترف بهم لا لشيء إلا لأنهم أحفاد رؤية تنويرية قادرة على خلخلة الكون والمتخيل، لكن النص الديني والأدبي في تجلياته الهيرمونيطقية هو جزء عضوي من هذا العالم وجزء من تصورات المخيال البشري، وهذا ما جعل الكسندر بوب في القرن الثامن عشر يكتب قصيدته التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في أوروبا في ذلك الوقت، والتي سماها «مقال عن الإنسان»، إذ يعتبر أن الإنسان غير قادر عقليا ومنطقيا على فهم السبب الجوهري في وجوده وخلقه، ولذا فالكسندر بوب يحاول أن يبرر علاقة البشري بخالقه، من خلال نصه الشعري الفلسفي الذي يبدو فيه بوب هاجيا لكل المنجز البشري العلمي والإبداعي أمام عبقرية النظام الكوني Macrocosm ، الذي ابتلع المنجز الإنساني، من خلال دياليكتيك الوجود ومعضلة الخلود، حتى بقيت الحبكة مفتوحة على مصراعيها. ربما هذا الأمر الذي دفع بفولتير وكانط أن يعتبرا هذا النص من أكثر النصوص الكونية جمالا وسحرا وقدرة على محاكاة الشرط البشري أمام سؤال اللاهوت والمعرفة، حتى أن رأي فولتير في قصيدة بوب تلــخص في قوله إنها «بلسم يشفي جروحي ويمنحني القدرة على الصبر أكثر أمام كل هذا العبث الوجودي».
كان الحلاج المثال البشري الأكثر قدرة على تأصيل التوتر الأزلي بين الفهم البشري لله، وبين اختطاف السلطة السياسية للدين وحجرها على حرية الفن في قدرته على محاورة الله والذات المتصوفة، بما يتجاوز الصورة الثنائية المتحجرة التي أبدع من خلالها السياسيون وأنصار السلطة في تسديد سهامهم السامة صوب حرية الفن والكتابة والإرادة البشرية، فكان دور الخليفة والكنيسة ورجال الدين بارزا في تسطيحهم للفقه المعرفي والديني وقمعهم للذات والتأويل، وسد منافذ التفكير القادر على خلخلة الأنماط الثنائية الثابتة للحقيقة وفهمها. كانت صرخة الحلاج «أنا الحق» ذروة التجلّي الذي حققته المعرفة الصوفية لفهم الذات والوجود والذات الإلهية، حتى احتجبت نصوصه على هؤلاء المتشبثين باللغة التي لا تعيد ولادة ذاتها كلما تليت سورة على متلقيها، وكأنها تنزلت للمرة الأولى! ما زال الملايين يؤمنون بأن النص الديني والأدبي حجر يلقى في بركة ماء، ولا بد لمن يتتبع الأثر ويقتفيه أن يصل للمعنى ويحتكره، لكن الذي يحتجب في سياق المعنى على القارئ والكاتب هو تماما الإنزياح اللغوي والتاريخي والآيديولوجي الذي تحدثه نظرية ارتحال النص التي تحدث عنها إدوارد سعيد، إذ يرتحل النص من شخص لآخر، ومن سياق تاريخي لآخر، ومن مترجم معرفي لآخر، حتى يتلقفه الملايين وقد نضج واختمر وتحولت مضامينه بين قارئ يفتش عن صورته الدينية الإيمانية في مرآة النص، وبين قارئ قلق شكاك لا يرضى بأنصاف التأويل ولا تحجبه غشاوة اللغة عن جوهر الرؤية.
ومن المسلم به لاهوتيا أن النبي ينزل إلى أمة محملا برسالة بعث بها الله مكتوبة في سفر التكوين أو العهد القديم أو الجديد أو القرآن رغم وجود اختلافات جوهرية في تفاصيل التأويل، إلا ان جميع الأنبياء هم وسطاء تأويل لاهوتي، تم اختيارهم من قبل الله ليقوموا بمهمتم الجوهرية في التنوير وبث رسالة العبودية وفهم الإنسان والوجود والأبدية، وهذا ما يحيلنا مباشرة إلى هيرمز رسول الآلهة في الأسطورة الإغريقية، وابن زيوس كبير الآلهة في العصر الإغريقي، الذي كان دوره الجوهري هو التأويل. هنا تبدو لنا صورة طباقية عبقرية لكنها منقوصة، ومتوترة لأن فهم النص المقدس مختلف عن فهم الأسطورة، رغم التقاطع الكبير هنا. كان يسمى في ملحمة الإلياذة بجالب الحظ، والحارس، ولكنه عرف بالخداع والمكر والقدرة على الإقناع. وهنا تتجلى الفوارق الكبرى بين مفهوم النبي لاهوتيا في مهمته المقدسة والمرهونة بالتطهير ودفع الإنسان نحو فعل الخيرية، ومجابهة الخطيئة، وبين مفهوم رجل الدين الذي نصب نفسه نبيا أو خليفة لهذه الأفهام المتراكمة، فأغلق الباب على كل محاولة تنسف الصورة النمطية المنحوتة من مخيال المأفونين بسلطة المعرفة ومعرفة السلطة. يبقى سؤال التأويل والكتابة جاثما أمامنا كالجثة ما لم نخلخل بنية العلاقة الأزلية بين الدين والفن والأدب، ونشرع بطرح الأسئلة ذاتها التي طرحها دانتي في الكوميديا الإلهية، وأبو العلاء المعري في رسائل الغفران، وميلتون في ملحمته «الفردوس المفقود»: الجنة والنار والوجود والماوراء والذات البشرية ليست إجابات على نصوص إلهية أو بشرية، بقدر ما هي أسئلة جمالية وفلسفية تتطلب منا البحث عن الحقيقة العارية. هذه الحقيقة التي رسمها دانتي والتي نصب نفسه على مسرحها البطل الراوي، حقيقة تتجسد في ثالوث الوجود اللاهوتي والجمالي: رحلة صوب الأبدية والآخرة بين المطهر والجحيم والجنة، حيث يقول عبارته التي علقت كل ما قيل عن الوجود والإنسان على مشجب الحيرة والشك «إذا كان العالم الحالي فوضويا وضالا، فابحثوا عن العلة في ذواتكم».

القدس العربي

التعليقات مغلقة.