“بافي طيار” و”كيفو”: الكوميديا و كرة القدم في مجابهة القسوة و رياضة القتل

293

بدرخان علي

 مَنْ هم في جيلي في قامشلي، من أبناءِ عنترية وجوارها خصوصاً، يتذكّرونَ البداياتِ المتواضعةَ فنيّاً لجمعةِ خلّو، الشهيرِ باسمِه الفنيّ “بافي طيار”، والصعود الرياضي لـ” كيفو” نجم صخب الملاعب والمشاغبات الرياضية في شبابه. كبرَ الاثنان في بيئةٍ فقيرةٍ ومكافحة، وعانيا من شظفِ العيش. في قريةِ عنترية، شرق مدينة قامشلي، القديمة نسبياً في المنطقة والأقدم من المدينة وأصبحت مع نموّ المدينة ضاحيةً كبيرةً في شرقيّها؛ وكانت خزاناً للنضالِ القوميِّ الكرديّ، وقدّمت المناضلينَ والشهداء. عاصرتُ في طفولتِي هذه الأجواء.

“بافي طيار ” سرعان ما دخلَ كلَّ بيتٍ كرديٍّ تقريباً وأدخلَ البهجةَ والضحكَ في قلوبِ الصغارِ والكبار، كفنانٍ كوميديٍّ شعبيٍّ، من دون دراسةٍ أكاديمية أو تعليمٍ رسمي، وبإمكانيات تقنية بسيطة للغاية، لكنه نجحَ ببساطتِه  الشعبويّة- الزائدةِ أحياناً – وكونِه من أوائلِ من شقَّ هذا الدربَ في منطقتِنا باللغة الكردية، ونال شهرة بين الكرد خارج سوريا كذلك.

“بافي طيار” وأخوته انضمّوا لصفوفِ الحركةِ الكردية، القريبةِ من حزبِ العُمّالِ الكرد/ستاني. شقيقُه عباس كان قياديًّا في حزب (ب ي د)، وسُجنَ بعد انتفاضةِ 2004 عدّةَ سنواتٍ – على ما أذكر. وهو والدٌ لمعتقلةٍ في سجونِ الاحتلالِ التركيِّ لمشاركتِها في مقاومةِ الاحتلالِ ومرتزقتِه. وهو خالٌ للشهيدةِ آهين، التي هي بنتُ “كيفو”، التي استشهدت في معارك كوباني.

“كيفو”، عاشقُ كرةِ القدمِ منذ طفولتِه، يؤسّسُ منتخباتٍ كرويّة، يطلقُ عليها أسماءَ ” راقية”، سمعَ بها من التلفازِ أواخرَ الثمانينات، كفريقِ “جوفتنوس” الإيطالي، من شباب “عنتريّة” والأحياءِ المتواضعة المجاورة. يدرّبُ الشبابَ والصغار. شاهدتُه في صغري وهو في عنفوانِ شبابِه نزقاً مع لاعبيه الذين كانوا يخافونَه كأبٍ قاسٍ. مدرّبٌ كضابطٍ عسكريٍّ، يهابه جنودُه، والكلُّ خائفٌ من الخسارة، بمن فيهم حكمُ المباراة.

ورغمَ ذلك لا يتركُ هؤلاءِ الشبابُ اللعبَ في فريقِه ويظلّون متحلّقينَ حولَه. فريقُه في الصدارةِ غالباً في دوري الفرقِ الشعبية. يجبرُ الحكمَ على إنهاءِ المباراةِ قبل وقتِها إذا ما غضبَ من أداءِ لاعبيه. يكسرُ كأسَ الفوزِ إذا لم يعجبْهُ التحكيمُ أو نتيجةُ المباراة. ينهرُ لاعبيه، ويجبرُهم على تمزيقِ قمصانِ اللعب. في ذاكرتي مشاهدُ عديدةٌ من هذا القبيلِ. لكنه أصبحَ مع التقدّمِ في العمرِ هادئاً ولطيفاً، يدرّبُ الأطفالَ حتى أيامِه الأخيرة، ومحبّوه كثر.

ظلَّ على حبِّه العجيبِ “العنيف” لكرةِ القدم. في مقتبلِ هذا العامِ،2025م، بثَّ رسالةً مصوّرة قصيرةً بالعربيةِ لرياضيّي سوريا كافةً متمنّياً السلامَ والأمانَ لكلِّ سوريا والسوريين. ربّما كان يتخيّل – كما كثيرين- أن سوريا تشهد عهداً جديداً من الحرية والمساواة. في حديثٍ آخر يقول: كرة القدم بالنسبةِ لي مسألةُ حياةٍ وموت؛ بقاءٍ وعدمِ بقاء!. تستغرب من هذا العشق لكرة القدم، لكن اللغة النضالية القومية حاضرةٌ في كل شيء كما نرى. وكانت وصيتُه إذا مات أن يطوفوا بجثمانِه في ملاعبِ قامشلي قبل دفنِه، وخصوصاً ملعبَ شهداءِ 12 آذار، نسبةً لانتفاضةِ قامشلي 2004 – الملعب البلدي سابقاً – وأن توضعَ كرةُ قدمٍ إلى جانبِه في القبر!

الإثنان/ مع من كان معهم من عوائلِ الشهداءِ، بينهم “أكرم رخو” من أهالي عنترية الذين استشهد بدوره / ذهبوا في قافلةٍ مدنيّين تضامنيةٍ إلى مكانٍ قريبٍ من جبهةِ حربٍ مشتعلةٍ بالقرب من سدِّ تشرين، حيث يحاولُ الاحتلالُ التركيُّ (جوّاً) مع مرتزقتِه السوريين السيطرةَ، وإطباق الحصار حول كوباني.

ما جدوى هذا التضامنِ في وجه آلةِ قتلٍ كاسحةٍ تقتلُ عشوائيّاً وعمْدًا؟ وما هذه الشجاعةُ غيرُ المجديةِ وفي غيرِ مكانِها؟ أليستِ الجهةُ المسؤولةُ تنتهكُ قوانينَ الحربِ لتهاونها، وتتحمّلُ قسطاً من المسؤوليةِ مع الاحتلالِ التركي، والحالُ هذه؟ أليس استهدافُ الاحتلالِ التركيِّ وعملائِه السوريينَ للسدِّ جريمةً كبرى قبل كلِّ شيء؟ والسدُّ من الأعيانِ المدنيةِ المحميّةِ بموجبِ القانونِ الدولي، ولم يُستخدم للأغراضِ العسكرية، على الأقل وفقَ مبدأِ التناسب. واستهدافُه ينذرُ بكارثةٍ بيئيةٍ على المنطقة؟ الأمرُ بحاجةٍ لتناولٍ قانونيٍّ مستقلٍّ، ليس هو موضوعَنا هنا.

الاثنان قاوما عنفَ أن تكونَ كرديّاً؛ كلٌّ بطريقتِه في الحياة، وبخاتمة واحدة. “بافي طيار” بروحِ النكتةِ والكوميديا الشعبيةِ البسيطةِ والاستعدادِ الدائمِ للتضحيةِ بروحه وأبنائه. “كيفو” انتقمَ من هذا العنفِ المحيطِ بـ”عنفِ” العاشقِ للرياضة، وتضحيةٍ بفلذةِ كبدِه. وفي الختامِ، تحدّيا الموتَ والعنف، وبالالتحامِ المباشرِ مع الموت، وبإرادةٍ حرّةٍ تماماً؛ وليس حبّاً في الموت. فكانت الخاتمة المأساوية لهما سويّة انتصاراً للإنتشاء بالقتل على الكوميديا و البساطة ولرياضة القتل على كرة القدم.

 

سيرةُ هذين الرجلين الصديقين والقريبين لبعضهما، تلخّصُ سيرةَ شعبٍ كاملٍ، سيرةَ التمرّدِ على قساوةِ أن تكونَ كرديًّا؛ مهمّشًا؛ منبوذاً، في دولةِ البعث. وما أنْ تتنفّسَ بالكردية حتى ينقضَّ عليك جارُك التركيُّ من الشمال، فقط لكونِكَ كرديّاً تريدُ حقوقَك من دون أن تُؤذيه بأيّ شيء. يقتلُ شبابَك وأبناءَك أمامَ أعينِك؛ يدمّرُ أبسطَ سُبُلِ حياتِك الصعبةِ المُتهالكة؛ يتنمّرُ عليك ليلَ نهار؛ يهدّدُك بالفناء.

الاثنان، وأمثالُهمُ الكثير، تمرّنوا على مجابهة الموت، وعايشوا الحربَ الطويلةَ المفروضةَ على شعبِهم. شاهدا أشلاءَ أحبّتِهم أمامَ أعينِهم، حقيقةً لا مجازًا؛ وفقدا فلذاتِ أكبادِهم. شريحة اجتماعيّة رهنَت حياتها ومعنى حياتها للمقاومة من أجل القضية.

هكذا نرى في سيرةِ الرجلين/الشهيدين تداخلَ العوالمِ الشخصية والعامة والنضاليّة: الرياضةَ والنكتةَ والكوميديا والعنفَ والكفاح القوميّ ومجابهةَ الموت بالتضحيةِ بالروح والجسد.

شجاعةٌ فائضة، وربّما في غيرِ مكانِها إذا ما حسبْناها، وغيرُ مفهومةٍ خصوصاً لمن هو بعيدٌ عن تلكَ الأجواءِ، والتكوينِ المتمرّدِ لهما، والتصاقِهما بالمقاومةِ الكردية، وعوالمِهما وعوالمِ الشهداءِ. حياةٌ كلُّها تشييعُ شهداءٍ وحزنٌ وتحدٍّ وإصرارٌ وكفاحٌ وتجهيزُ مقاومين. عندهما، كما أمثالِهم من عوائلِ الشهداءِ، كلُّ مقاتلٍ على الجبهةِ هو مثلُ أبنائِهم. بل هو امتداد لأبنائهم، وطيفهم.

من الصعبِ أن يستوعبَ المرءُ هذه التضحيةَ إذا لم يُقارِبِ المشهدَ وفقَ التحامِ عوائلِ الشهداءِ بالشهيدِ والمقاتلِ والمقاومة، والحريّة وتجسيدِها الحيّ في الكفاحِ والسلوك اليوميّ حتّى الذوبانِ في القضيّة . الحساباتُ المجرّدةُ ستكونُ ظالمةً لهم، ومتعاليةً، ومُتثاقِفةً جدًّا( وإنْ كانتْ تبدو صائبةً في جوانب سياسيةٍ محدّدة) لا تُلاحظُ دوافعَ هذه المخاطرةِ بمحض الإرادةِ الحرةِ بل بملئ الفخرِ والتحدّي والعنفوان.

(شاهدتُ على منابر إعلامية سوريّةٍ داعمةٍ لمرتزقةِ تركيا مزاعمَ بأنّ “الشبيبة الثورية” تجبرُ هؤلاءَ على الذهابِ للسدّ، ومزاعمَ أخرى بأنّ الإدارةَ الذاتيةَ تجبرُهم تحتَ تهديدِ الفصلِ من الوظيفة!)

قبلَ استشهادِه بلحظاتٍ أو ساعات، يُصرّحُ “بافي طيار” من على سدِّ تشرين؛ لإحدى القنواتِ أنهم مستمرّون بالتضامنِ مع أبنائِهم المقاتلينَ على الجبهات، ما دامَ بقيَ فيهم نقطةُ دمٍ واحدة. ويتحدّى الموتَ والخوفَ من الموت، بتحدّي أردوغانَ شخصيّاً الذي لم يستطعْ آباؤه القضاءَ على الكرد، كما قال. ويتابعُ المتضامنون الأهازيجَ الوطنيةَ وحلقاتِ الدبكة. شبان وكبار وشابات، كهول و جدّات وأمهات، إعلاميّون وإعلاميّات في مقتبل حياتهم/هن، مسؤولون، رجال ونساء، من مؤسسات مدنيّة من الإدارة الذاتيّة.

(نُشرَ تسجيلٌ مصوّرٌ بثّه مرتزقةُ أردوغان، يظهرُ طيرانًا مُسيّراً يقصفُ حلقةَ دبكةٍ على سدِّ تشرين يعقدُها متطوّعونَ مدنيّون، دونَ أيِّ هدفٍ عسكريٍّ واضح، مع وقوع ضحايا)

لا أُمجّدُ الموتَ، ولا أُزيّنه. ولو كان الأمرُ بيدي لمنعتُ اقترابَ أيِّ مدنيٍّ من خطوطِ القتال. لكنّي أعلمُ تماماً مَن هو القاتلُ ومن فرضَ هذا الموت الأسود و التحدّي القاتلَ على شعبِنا: آلةُ القتلِ والإبادةِ التركيّة التي لا ترتوي ولا تعرف التوقّف.

شعبٌ يحبُّ الضحكَ والرياضةَ والموسيقىَ والرقصَ والحياة. لذلك تراه يُجابهُ الموتَ المفروضَ عليه، بأعزِّ وأغلى ما لديه.

هذا الموتُ المُتربّص بنا آن له أن يتوقّف.

التعليقات مغلقة.