كيف بدّد بشار الأسد إرث والده؟

59

عندما خرج رياض الترك من اعتقال سبتمبر/أيلول 2001- نوفمبر/تشرين الثاني 2002، استذكر عبارة وجهها له اللواء عدنان بدر حسن، رئيس شعبة الأمن السياسي، أثناء التحقيق معه: «نحن من أتينا بهذا الصبي ونحن من نحكم من خلفه». وعندها، ذكّره كاتب هذه السطور بأن كلام اللواء غير صحيح، والدليل أنه أبعد من منصبه في يونيو/حزيران الماضي، وأن كل الطاقم القديم من زمن حافظ الأسد أبعد بمعظمه من قبل بشار الأسد. وبهذا الصدد، كانت المعارضة السورية في السنوات الأولى من حكم بشار تطرح بغالبيتها نظرية أن هناك صراعاً بين الاتجاه المحافظ عند الحرس القديم والاتجاه الإصلاحي في القصر. وهي نظرية ابتدعها ميشيل كيلو وطرحها بأربع مقالات نشرت في صحيفة «النهار» في العشرية الثالثة من أغسطس/آب 2000. وفي المؤتمر التداولي للحزب الشيوعي (المكتب السياسي) المنعقد في مارس/آذار 2001، كان رياض الترك وكاتب هذه السطور الوحيدان ضد هذه النظرية بين خمسة وأربعون حضروا المؤتمر، حيث كان يريان أن هناك نظاماً واحداً غير منقسم إلى جناحين وأن رأسه هو بشار. وعلى ما يبدو، أن هذا كان المطابق للواقع من ربع قرن حكم بها ابن حافظ الأسد.
ولكن بشار كان غير حافظ. وفي الواقع، يمكن القول إنه على صعيد مستوى الكفاءة السياسية بالقياس لأبيه هو مثل يزيد بالقياس إلى معاوية، وأنه فرّط بالجبهة الداعمة التي وقفت مع عملية وراثته لحكم أبيه التي امتدت من واشنطن إلى باريس والرياض، وبالتأكيد تل أبيب، وتجاوز خطوطاً حمراً لم يتجاوزها والده. وكان مدهشاً خطابه عندما أتى بابا الفاتيكان عام 2001 لدمشق وأسمعه بشار خطاباً كان من جملته أن «اليهود صلبوا المسيح وحاولوا قتل النبي محمد»، من دون أن يقول له أحد من مستشاريه قبل الخطاب إن المجمع الفاتيكاني برّأ اليهود من عملية الصلب، وبأن اليهود «خط أحمر لدى الغرب». والأرجح، أن تعليق شيمون بيريز، وهو أحد أذكى الساسة الإسرائيليين، على ذلك الخطاب بأنه «يبدو لم يتعلم شيئاً من إقامته في بريطانيا» كان ينذر ببداية سحب الغطاء الدولي عن حكم بشار، وهو ما استكمل بعد وقوفه ضد الغزو الأميركي للعراق. هذا الموقف الذي كان من أثمانه وضع ظهره على الحائط اللبناني من خلال القرار 1559 الداعي في 2004 لسحب الجيش السوري من لبنان، وهو ما كان الرد عليه من دمشق وجهات عديدة باغتيال رفيق الحريري وما تبع هذا من أزمة مع واشنطن وباريس والرياض. ورد بشار على ذلك بالارتماء بحضن طهران في ظرف كان بدأت المجابهة الأميركية مع إيران بعد استئنافها برنامج تخصيب اليورانيوم في صيف 2005. وعملياً، كان موضوع فك ارتباط النظام السوري بطهران هو محور سياسة واشنطن- باريس- الرياض في فترة 2007-2010. واستخدم الأتراك والقَطريين كمقاولين لذلك. وعندما لم ينجحوا، صب هذا الخماسي الزيت على الحريق السوري الداخلي الذي اشتعل في درعا في 18 مارس/آذار 2011.

أفقد بشار، خلال عقد من الزمن بعد وراثته لأبيه، دمشق الدور الإقليمي الذي اكتسبه حافظ في فترة 1976-2000 وجعلها في الإقليم أقوى من القاهرة وبغداد وتبزّ الرياض، فيما أصبح ابنه تابعاً لإيران على الأقل في لبنان 2006-2010، ومتخاصماً مع واشنطن والرياض. وعندما اندلع الحريق السوري، كان لا يملك من خيار سوى أن يصبح تحت رحمة الإيرانيين ومن ثم الروس. وكان منظراً مدروساً في الإعلام أن يكرر مسؤولون روس وإيرانيون ومعهم حسن نصر الله القول إنهم أنقذوا النظام السوري من السقوط في عديد من المرات.
على صعيد الداخل السوري، حاول بشار في السنة الأولى من حكمه الظهور عبر لغة جديدة من خلال خطاب القسم، ولكنها لم تتجاوز «التحديث والتطوير»، ولم يتطرق أو يتلفظ بمصطلحي «الإصلاح» و«التغيير». وعلى صعيد الممارسة، لم يحدّث أو يطور أي شيء في بنية السلطة التي ورثها من أبيه ولا في طريقة التعامل مع المجتمع، بل كان أسوأ من أبيه الذي لم يجمع سياسة الإفقار للفئات الوسطى وللفقراء مع احتكار السلطة والقمع، فيما كان بشار سائراً بمنهجية في جمع الدكتاتورية مع القمع والإفقار. وظهر هذا مع ليبرالية اقتصادية بدأت عام 2004، ثم استغل وزمرته الاقتصادية، أولاً بزعامة رامي مخلوف ثم أسماء الأخرس بعد 2020، ظروف الحصار والعقوبات الدولية من أجل نهب وحشي لجيوب السوريين، ليصبح 95% من السوريين من الفقراء بسببهم وليس جرّاء العقوبات والحصار، فيما قام كاسترو بعد 1961 وخامنئي بعد 1995 بعملية بناء اقتصاد قوي في ظل الحصار والعقوبات .
أما على مستوى تعامله مع الحريق السوري عام 2011، فإن خطابه بعد اثني عشر يوماً من بدء التظاهرات في درعا، ومن ثم باللاذقية في الأسبوع التالي، كان يوحي بما قاله حافظ محمد مخلوف لأحد معارفه في يوم الجمعة الأخيرة من أبريل/نيسان 2011، ونقلها هذا الشخص لكاتب السطور: «عندما لا تستطيع الدفاع عن بيتك، فإنك تفجره وتحرقه». وفي هذا الإطار، لم تظهر عبثاً شعارات من قبيل «الأسد أو نحرق البلد» و«الأسد أو لا أحد». وكان بشار الأسد بعيداً عن سياسات روّجها باحثون غربيون من أن «الأسد لا يفاوض تحت النار، بل بعدها». ولم يصل إدراكه إلى تلمس سياسة مارسها دينغ سياوبنغ ضد الطلاب في العاصمة الصينية عام 1989 أو خامنئي ضد احتجاجات الطلاب عام 1999 أو ضد الثورة الخضراء في طهران 2009 وكانت تنبع من مقولة أطلقها فريدريك إنجلز عام 1890 بأن «الخسارة هي مصير أية حكومة تسمح لحركة معادية تتطلع إلى إسقاطها بالعمل في إطار القوانين».

أحرق بشار البلد ودمرها تدميراً منهجياً، والبراميل المتفجرة مثال على ذلك، ولكنه لم يربح المجابهة مع المعارضة المسلحة التي دعمها الخارج مثلما دعمه الخارج الروسي- الإيراني ومعهما حزب الله والمليشيات الشيعية متعددة الجنسيات. ولولا الروس والإيرانيين، لسقط على الأرجح في عام 2015 وربما في خريف 2011. وهو لم يعرف سياسة «العصا والجزرة» التي استخدمها والده مع جماعة الإخوان المسلمين في فترة المجابهة المسلحة، حيث مزج القمع مع إطلاق مساجين، ومنهم قياديين، بين يونيو/حزيران 1979 وفبراير/شباط 1980. وكان يتفاوض معه كوسيط وقتها القيادي السابق في الجماعة أمين يكن الذي كان يزوره في قصر المهاجرين حتى ربيع 1980، وهو كان مسؤول اتصال الجماعة به في فترة 1969-1970 حينما دخل في صراع مع صلاح جديد، ثم اتجه إلى سياسة الحديد والنار مع الجماعة مع استنفاذ فرص الحلول الوسط معهم، ومنها نشوء حزب أو جماعة إسلامية شرعية من دون أن تحمل اسم الجماعة، حيث دفع الفرقة الثالثة إلى حلب في أبريل/نيسان 1980، وقبلها بشهر ارتكبت الوحدات الخاصة مجزرة جسر الشغور.
في المجمل، سقط حكم بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 حينما لم يستطع حليفاه الروسي والإيراني أن يكررا في 2024 عملية حمايته التي مارساها عام 2015، حيث كانا أقوياء وكانت واشنطن وتل أبيب لا تريدان إسقاط النظام السوري، الذي كان أيضاً حينذاك ضعيفاً ومتهالكاً ومتعفناً. في عام 2024، كان الإيراني مهزوماً بحربين انبثقتا عن عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في غزة ولبنان، والروسي ضعيفاً ومنهكاً بفعل الحرب الأوكرانية. لذلك انهار النظام السوري بسهولة في 11 يوماً وبدا «أوهى من بيت العنكبوت». وهو كان في هذه الحالة عام 2015 ولكن تم منعه من السقوط بفعل خارجي اجتمع فيه الحلفاء والخصوم. ولكن اختلف الأخيران عام 2024، حيث ارتأت واشنطن إمكانية توجيه ضربة كبرى عبر دمشق تقلب اللوحة الشرق أوسطية برمتها ضد إيران وتضرب موسكو في المكان الوحيد لها في المياه الدافئة تمهيداً لمفاوضات دونالد ترامب القادمة مع الروس حول أوكرانيا وربما أيضاً مفاوضاته المحتملة مع الإيرانيين حول اتفاق نووي جديد.

 

المصدر: المركز الكردي للدراسات

التعليقات مغلقة.