في نقد «ثورة» أدونيس نصّ: سعد الله ونوس

24

08qpt977

في الثورة، يميز أدونيس بين «ثورة الأشياء» وهي التي يقوم بها – تحديداً – العمال والفلاحون، وبين «ثورة الكلمات» التي يقوم بها – تحديداً – الشاعر. ثم يجتهد في المقارنة بين الثورتين، أو في تحديد «خصوصية» كل منها. إلا أنه يعجز عن ربطها بأي علاقة، ويتحاشى كل الصيغة التفاعلية بينهما. فنحن أمام ثورتين مستقلتين تمضيان الواحدة بمحاذاة الأخرى أو خلفها، وليس بينهما إلا صلة محض شكلية قد لا تتجاوز التسمية. ومرد هذا الانقطاع، أو الانفصال، إنما يعود إلى رؤية أدونيس للثورة المادية، ثورة العمال والفلاحين. فهو يتحدث عن هذه الثورة كتجريد ذهني، أو كصورة رومانتيكية غير مرتبطة إلا بخطوط واهية مع الواقع الموضوعي بكثافة حقائقه، وغنى حركته. إنها تقريباً طفرة في الهواء، وخارج وعاء التاريخ، لا نعرف كيف تتم، ووفق أية قوانين؟ تقريباً هي معجزة يحققها عمال وفلاحون شفّ وجودهم حتى باتوا كالخيالات النورانية. وفي هذه المعجزة، الحديث عن الأيديولوجيا مسألة ثانوية، والوعي معطى بصورة غيبية، والانفجار صاعقة تهوي دون توقع. يقول أدونيس: «الثورة هي شعر المادة. والعمال والفلاحون هم شعراؤها الطبيعيون. وليس العمل بذاته، الفكرة بذاتها، هو ما يهم في الثورة، بل المهم هو دلالة العمل (طريقة التعبير). فقيمة العمل ليست معطاة في الحركات المباشرة التي تكونه، وإنما هي تابعة للمسافة بينها وبين العمل، أي بين العمل ودلالته التي تتجاوز المعطى المباشر إلى الممكن». وواضح من هذه العبارة، رغم أفعوانية اللغة التي يستخدمها أدونيس وسيلة لشلّ قارئه، طبيعة نظرته الطوباوية أو»التجريدية» للثورة. فهو يغمض عينيه عن «الإيديولوجيا» – الفكرة ذاتها، ويطرحها جانباً كعنصر ثانوي، ليقفز بسرعة إلى الدلالة، إلى النتيجة، إلى تجسيد الممكن. هذه القفزة نحو الممكن ليست فقط غير ممكنة دون أيديولوجيا، بل إن الممكن نفسه لا يمكن تحديد معالمه إلا عبر المنطلق الإيديولوجي. ولذا فأن العمل يتضمن دلالته إذا أردنا استخدام كلمات أدونيس، والمسافة بين العمل، وتحقيق تلك الدلالة، هي بالذات النضال اليومي المترابط الذي يبدأ من الوعي، ويعبر في صرعات مستمرة، وأحياناً دموية، حتى يصل إلى إنجاز مهمته وهي الثورة. وفي هذا السياق يمضي العمل والدلالة في ديالكتيك خصب يتنامى كل لحظة. والعمال والفلاحون في غمار هذا الديالكتيك ليسوا صورة ذهنية، وإنما هم وجود حي، مليء بالحضور، ومحدد بظروف تاريخية معينة سواء اقتصادياً، أو ثقافياً، أو وعياً بوحدتهم الطبقية. وهم لا يستطيعون أن ينظموا قصيدة الثورة بالإلهام، وإنما بتضافر مجتمع من عوامل موضوعية ليس أقلها الوعي، والتنظيم، والظرف التاريخي المواتي، والإيمان الحار بإمكانية الثورة، أو بتعبير آخر، تضافر كل الفعاليات الثورية في مجتمع خلق الظروف الملائمة لولادة قصيدة الثورة. لكن أدونيس يتجاهل كل هذه الحقائق، ويتخيل واقعاً تاماً ناجزاً يخطط على أساسه نظريته في الشعر الثوري. وفي مقالة «الطليعة السياسية/ الطليعة الشعرية» يبلغ هذا التجاهل قمته حين يقول في حوار مبني على الوثبات «إن هذه الطبقة لا تستطيع تحقيق الثورة بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا إذا كانت هي نفسها، عقلياً وحياتياً، قد ثورت نفسها، أي خرجت، بتفكيرها وسلوكها، من العالم القديم التقليدي، بمفهوماته وقيمه كلها، وأخذت تمارس بناء العالم الثوري الجديد». ويلفت النظر حقاً ما في عبارة «قد ثورت نفسها» من انقطاع عن الواقع، ومراوغة المسؤولية. كيف ثورت نفسها؟ أهي المعجزة! أم ربة الشعر! أم التوالد الذاتي! أن أدونيس لا يخبرنا إلا بمجرد الإشارة إلى الطليعة السياسية. ولدينا كل الحق أن نستنتج أن المسألة لا تعنيه كثيراً. لأن الثورة التي يتحدث عنها هي ثورة ذهنية، أو افتراضية، مسلوخة عن الواقع وتعقيداته. ولا شك أن هذا التصور الذهني يفرغ الثورة من تاريخيتها، ومن جوهرها كتحليل أيديولوجي محدد لموقع محدد، ثم كصراع متواصل عبر متغيرات هذا الواقع وصولاً إلى تحقيقها. وبمثل هذا التفريع تغدو الثورة صورة طوباوية لا يكلف، ولا يقتضي الانتماء إليها أي شيء. أنها هناك.. في الزمن الآتي. طفرة تمّت، وشكل تكوّن. وما بين الآن والزمن الآتي مسافة مطوية، تختفي في طياتها كما الغبار، الأيديولوجيا، وجدليات الواقع، وتناقضات القوى، والنضالات اليومية… أو باختصار، كل سياق الثورة الذي هو بالتحديد العلمي: عملية الثورة الحقيقية.
فقرات من مقالة مطولة بعنوان «عن الثورة والشعر»، 1976
مسرح محكوم بالأمل
وقفتان نوعيتان، بين محطات كثيرة نوعية في حياة المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس (1941ـ1997): الاولى، يوم 27 آذار/ مارس 1996، حين اعتلى خشبة صالة الحمراء في دمشق، ليقرأ «رسالة يوم المسرح العالمي»، التي كتبها بتكليف من «المعهد الدولي للمسرح»، التابع لمنظمة اليونسكو، وقُرئت في اليوم ذاته من عشرات المسارح على امتداد العالم، والوقفة الثانية كانت في المسرح ذاته، ربيع 1971، ولكن في الصفوف الخلفية من مقاعد الجمهور، حين عُرضت مسرحية «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، بإخراج علاء الدين كوكش، واختبر ونوس بنفسه ردود الفعل التلقائية على لعبة بريختية حساسة، وجديدة بالنسبة إلى المسرح السوري، تتضمن مشاركة الممثلين في العرض من داخل صفوف المتفرجين، وليس على الخشبة وحدها.
ولقد شاءت المصادفة الدالّة، التي اتخذت أيضاً منحى المفارقة القاسية، أن يرحل ونوس في يوم 15 أيار/ مايو، أي في يوم «النكبة»، هو الذي ارتبط، مثل الغالبية الساحقة من المثقفين العرب، بالقضية الفلسطينية على نحو وثيق. وكان وعي الراحل، في بدايات كتاباته المسرحية، منشطراً بين أقصيَين: العبث الوجودي كما عكسه مسرح ألبير كامو، والموقع الكفاحي للمثقف وللنصّ الأدبي كما عكسه مسرح بيتر فايس وبرتولت بريخت. وبهذا كان الموضوع الوجودي والفلسفي أكثر ضغطاً من الموضوع السياسي، الأمر الذي جعل ونوس يكتب النصّ المسرحي لكي يُقرأ أولاً، أو لكي يُقرأ قبل أن يُؤدّى على الخشبة. هذه هي السمة الأولى التي طبعت مسرحياته المبكرة، خصوصاً في أعمال مطالع الستينيات مثل «ميدوزا تحدّق في الحياة» و»مأساة بائع الدبس الفقير» و»الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا».
لكنّ المسرحية الشهيرة «حفلة سمر من أجل 5 حزيران»، دشّنت طور النقلات الحاسمة التي أنزلت الراحل، مرّة وإلى الأبد، من الأبراج العاجية كافة: «مغامرة رأس المملوك جابر»، 1971، حين استخدم المادّة التاريخية لصناعة حكاية قادرة على إعادة إنتاج الحاضر في شكل إسقاطات سياسية واجتماعية معاصرة، و»سهرة مع أبي خليل القباني» 1973، حين اختار تقنية المسرح داخل المسرح وعالج ألوان الفرجة الشعبية ومسرح خيال الظلّ، لكي يوجّه النقد الشديد للخطاب الأصولي والمؤسسة الدينية المتحالفة مع السلطة، «والاغتصاب» 1990، حين بلغت شحنة الرسالة السياسية في النصّ المسرحي ذروة دراماتيكية جلبت على ونوس تهمة التبشير بالسلام مع إسرائيل، و»منمنمات تاريخية» 1993، حيث يتعرّض المثقف العربي، ممثّلاً هنا بالمؤرّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون، لنقد توبيخي بالغ القسوة، وأخيراً «الأيام المخمورة» 1996، حين أخذت المحنة الذاتية (داء السرطان) شكل يأس داخلي متعاظم يطمس قدرة الوعي على إدراك وتحليل اليأس الخارجي.
كان ونوس حاضراً أيضاً، وبقوّة، في السجالات الثقافية العربية، كما في سجاله مع أدونيس حول العلاقة بين الشعر والثورة، وكذلك في الانحياز إلى حرّية الرأي وحقّ التعبير (كما في استقالته من اتحاد كتّاب النظام السوري على خلفية فصل أدونيس من الاتحاد، رغم اختلافهما)، وسلسلة المواقف والمقالات التي نشرها خلال عمله في الصحافة الثقافية.
وستبقى محطّ اقتباس دائم، واسع النطاق، تلك العبارة الشهيرة التي اختتم بها كلمة يوم المسرح: «إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ».
القدس العربي

التعليقات مغلقة.