«داعش» في مرآة الإرهاب التوفلري
الفن توفلر ليس أحد شيوخ الارهاب ولا احد منظريه، ولا حتى احد قياداته الميدانية، انه احد اهم المفكرين والكتاب الذين ما زالوا على قيد الحياة. أنجز توفلر وزوجته هايدي الكثير من الاسهامات الفكرية في مجالات سياسية واجتماعية واقتصادية، ولهما حظوظ كثيرة بين زعماء العالم للقاء بهما وسماع آخر اسهاماتهما. عرف الثنائي توفلر في البداية بنظريتهما حول «الموجة الثالثة» التي اطلقاها قبل ما يقارب النصف قرن، واستتبعاها بجملة كتب فكرية سياسية هامة. إلا اننا نتوقف عند الارهاب هنا، وعند كتاب لهما كتباه بعنوان «الحرب والحرب المضادة» بعد حرب تحرير الكويت عام ١٩٩١، وقد اعتبر من الكتب الفكرية البارزة.
في هذا الكتاب يطبق هذا الثنائي نظريتهما ومنهجهما المتماسك منذ «الموجة الثالثة» على الحرب وكل ما يمت لها بصلة، بطريقة فريدة. ولكي نفهم جدوى هذا التطبيق وخصوصا ما يتعلق بموضوعنا، لا بد من المرور العاجل على المحطات الرئيسية لهذا المنهج. يقسم توفلر التاريخ البشري الى ثلاث مراحل، او حضارات، او موجات حسب تعبيره، الأولى هي الحضارة او الموجة الزراعية التي تبدأ بسكن اول انسان وبدء الزراعة والتدجين. ثم تليها الحضارة او الموجة الصناعية التي تبدأ ببداية الثورة الصناعية في اوروبا، وتليها الحضارة المعلوماتية، او الموجة الثالثة للحضارة التي تبدأ مع بداية الستينات.
ما يميز المنهج التوفلري عن الآخرين وخصوصاً اليساريين والماركسيين، ان مراحل التطور البشري التي تنقسم عندهم الى خمس مراحل، تتوالى بحيث تنهي في آخر المطاف الى الاشتراكية ثم الشيوعية. بينما في المنهج التوفلري لا تنهي مرحلة من المراحل الثلاث المرحلة التي سبقتها، بل هو يؤكد على وجود المراحل الثلاث في وقت واحد، وعلى بقائها كلها الى يومنا هذا. وتأتي الاهمية الاستثنائية لهذا الكتاب من انه يطبق هذه النظرية مباشرة على واحدة من الحروب المعاصرة، والتي هي حسب المنهج التوفلري بداية الصراع بين اساليب ووسائل الحرب لحضارتين مختلفتين، فيأتي التطبيق بعيداً كل البعد من خيالات المفكرين وشطحاتهم، بل يأتي ثمرة لتطبيق أشبه بعمل مختبري يجري على احد مجالات العلوم التطبيقية وداخل معمل.
وكما اسلفت، فإن الثنائي توفلر يعتبر حرب تحرير الكويت بالاساس حرباً بين نمطين من انماط الحروب تنتمي احداهما (العراقية) الى الموجة الثانية، اي للحضارة الصناعية، بينما ينتمي نمط الحرب التحالفية بقيادة الولايات المتحدة الى الموجة الثالثة، اي الحضارة المعلوماتية، ومن هنا يقرر الغلبة بالطبع للحضارة الجديدة المتفوقة. وباختصار شديد، يحدد توفلر طبيعة الاقتصاد في كل حضارة ويطبقها على اسلوب ونمط الحرب.
فالاقتصاد في الموجة الزراعية محدود وعلاقة الانسان بوسائل الانتاج علاقة مباشرة (المحراث، المنجل الخ…) ويعتمد بصورة كبيرة على القوة العضلية للافراد، فيما الفرق العاملة في الحقول الزراعية قليلة العدد نسبياً. ونفس الخصائص والمعايير تنطبق على نمط حرب الموجة الزراعية، فالجيوش قليلة العدد والانسان منخرط مباشرة في المعركة بسلاح مباشر يعتمد القوة العضلية بالدرجة الاولى (السيف، الرمح، السهم الخ…). ثم يأتي الى اقتصاد الموجة الثانية، اي الحضارة الصناعية، ويستنتج ان عدد العاملين فيه كبير جداً، واكثر تنظيماً والتزاماً، وان علاقة الانسان بوسيلة الانتاج غير مباشرة، وتدخل الطاقة كوسيط بين الانسان ووسيلة الانتاج فيما يعمل جيش ضخم من العاملين على معدات ومكائن وآلات ضخمة ومتعددة، ولا يعتمد على الجهد العضلي بالدرجة الاولى. ثم يطبق الخصائص والمعايير نفسها على جيوش ونمط الحروب في الحضارة الصناعية، فيؤكد ان جيوش الحضارة الصناعية ضخمة جداً، ونظامية وملتزمة اكثر، وعلاقة الانسان بالعدو ليست مباشرة، بل من خلال اسلحة غير مباشرة تعتمد الحركة الميكانيكية والطاقة، كالبندقية والمدفع الخ…
نمط الانتاج في الحضارة المعلوماتية، بحسب المنهج التوفلري، يختلف كلياً عن الحضارتين السابقتين، فتصغر الجيوش، لتفسح المجال امام فرق صغيرة متخصصة مكونة من خبراء فنيين على قدر كبير من الحرفية، وتختفي ايضاً الآلات العملاقة الغبية لتفسح المجال امام آلات ذكية تديرها منظومة الكترونية يتحكم بها حاسوب قد يحتاج الى مشغل واحد ينوب عن جيش كبير من العمال في الحضارة الصناعية. وهو يطبق ذات الخصائص على نمط الحرب في الموجة الثالثة او حضارة المعلوماتية، ويتحدث بدل المدفع العملاق الغبي الذي يعمل على اطلاقه فريق متكامل، عن صاروخ التوماهوك الذكي الذي يعمل بكل ما يضمن الدقة في الاصابة وكذلك نقل الصور، وكل ذلك من خلال حاسوب يشغله شخص حرفي واحد ومن على مسافات بعيدة جداً. يستمر توفلر في الحديث عن هذا النمط من الحرب ليتنبأ، في بداية التسعينات، بأن عدد الجنود الاميركيين الذين يحملون الحواسيب في الحرب المقبلة سيفوق عدد زملائهم من الجنود حملة البنادق.
… في احد اللقاءات سئلت عن فشل المجتمع الدولي في منع الحرب على العراق، فأجبت وفقاً للمنهج التوفلري بأن خطأنا يكمن في اننا نواجه حرباً من حروب الموجة الثالثة بمنظمة الامم المتحدة الحالية التي هي وسيلة سلام تابعة للموجة الثانية. والمؤكد ان «داعش» ارهاب يختلف عن سواه، وهو بالتأكيد ينتمي الى حضارة الموجة الثالثة، بل اجزم بأنه النمط الارهابي الرئيس لحضارة المعلوماتية، حيث يستند جزء كبير من قوة وفاعلية «داعش»، وحتى البنية التحتية لدولته، على التطور التكنولوجي الهائل، بدءاً بالتفجيرات، وصولاً الى اساليب التجنيد في كل بقاع العالم وبطريقة أصبحت عابرة للقوميات والبلدان، ليضم في ظاهرة جديدة الكثير من الغربيين في صفوفه.
من هنا اجد انه لا بد لنا من اعادة قراءة توفلر وخصوصاً في حربه وحربه المضادة، علّها تساعدنا على المزيد من الفهم والتعامل مع «داعش» بصفته بنية متكاملة لنمط ارهاب يتبع حضارة الموجة الثالثة، وليس بالاساليب المرتجلة.
سردار عبدالله/عن الحياة
التعليقات مغلقة.