«أقوم المسالك» لخير الدين: لماذا تقدّم الأوروبيون وتأخرنا؟ إبراهيم العريس

50

8c0841fcb66d49878ccc0f1562397a13يؤكد الباحثون في تاريخ عصر النهضة الإسلامي – العربي، في القرن التاسع عشر، من الذين تناولوا حياة المفكر خير الدين التونسي، إنه، حين وضع كتابه الأشهر – والوحيد المتكامل – «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، كان في ذهنه ان يضع مؤلفاً يكون للعصور الحديثة ما كانه تاريخ ابن خلدون في زمنه. ومن هنا حرص – كما فعل سلفه الكبير – على ان يقسم كتابه الى مقدمة ومتن، وعلى ان يحاول في المقدمة ان يطرح افكاراً تفصيلية لعلم جديد، على ان يكون المتن سرداً تاريخياً يطبّق المنهج الذي جاء الحديث عنه في المقدمة. وإذ يرى ألبرت حوراني، احد اكبر مؤرخي الفكر النهضوي، ان من عناصر التشابه بين ابن خلدون وخير الدين ان الإثنين «تونسيان، وضعا كتابيهما في فترة عزلة عن الحياة السياسية، وعالجا فيهما، كلّ على طريقته، قضية نشوء الدول وسقوطها. وقد قسم كل منهما كتابه الى مقدمة لعرض المبادئ العامة وإلى أجزاء عدة»، فإن حوراني يقرر ان «التشابه يقف عند هذا الحد. ففيما يُعنى كتاب ابن خلدون، في معظمه ايضاً، بتاريخ الدول الإسلامية، يُعنى كتاب خير الدين، في معظمه ايضاً، بتاريخ الدول الأوروبية وتركيبها السياسي وقوتها العسكرية». ويضيف حوراني ان اهمية كتاب خير الدين «تكمن في مقدمته». وخير الدين نفسه يقول لنا، منذ تلك المقدمة «ان ما حمل التونسي على وضع كتابه مقصدان: الأول، حمل اصحاب الغيرة والهمم من رجال الدين والدنيا على السعي في سبيل كل ما يؤول الى خير الأمة الإسلامية، وخير مدنيتها، من توسيع لحدود المعرفة وتمهيد للسبل المؤدية الى الازدهار، ما لا يتم إلا بفضل حكم صالح، والثاني، إقناع العدد الغفير من المسلمين الذين غرس في أذهانهم النفور من كل ما يصدر عن غير المسلمين من أعمال ومؤسسات، بضرورة انفتاحهم على ما هو صالح ومنسجم مع الدين الإسلامي من عادات أتباع الديانات الأخرى».
> ومن الواضح هنا ان خير الدين التونسي، إذ يعرض بعد ذلك، في القسم الثاني من كتابه، تاريخ اوروبا، فإنما يعرضه ليوضح فيه تاريخ ما حدث من تقدم في هذه المنطقة من العالم، لعل دروسه تفيد الأمة الإسلامية، خصوصاً ان الواقع الحقيقي للإسلام لا يمكن ان يعارض حتى الأخذ عن الآخرين – والآخرون هم، هنا، الأوروبيون – في الطبع، شرط ان يحمل ذلك منفعة للمسلمين. والتونسي يحذو في هذه النظرة، كما يمكننا ان ندرك على الفور، حذو الطهطاوي، سلفه النهضوي الكبير، كما انه يستند الى آراء كبار المتقدمين، كما يقول لنا هو نفسه، ومنهم «الشيخ الحواق الذي يرى ان الشرع لم ينهِ عن التشبه بمن يفعل ما أذن الله فيه»، والشيخ محمد عابدين الذي كان يقول: «ان صورة المشابهة في ما يتعلق به صلاح العباد لا تضر». وهذا الاستناد يدفع التونسي، في فقرة من مقدمته الى تحذير «ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا بمجرد ما انتقش في عقولهم من ان جميع ما عليه غير المسلم من السير والترتيب يجب ان يُهجر».
> في نهاية الأمر، كانت تلك هي الأطروحة الأساسية التي ألح عليها خير الدين في كتابه، الذي نشره أولاً في تونس عام 1867، ثم طبعه من جديد في اسطنبول في ما بعد. وحياة هذا الكتاب تشبه في هذا المجال، حياة صاحبه، إذ حين نشرت طبعته التونسية، كان خير الدين يتوّج سنوات طويلة من حضوره المهم في اعلى مستويات السلطة في تونس. اما حين نشرت طبعته في اسطنبول فكان اضحى من مسؤولي الصف الأول في السلطنة العثمانية، كما سنرى. أما بالنسبة الى الكتاب، فمن الواضح ان خير الدين إنما أراد من وضعه، بعد ان عاش تجربة الحكم سنوات طويلة في تونس، وخبر ضروب التقدم الأوروبي، أراد ان يظهر ما هي اسباب قوة المجتمعات الأوروبية وتمدنها، وبنوع خاص دور الدولة في المجتمع، وذلك بتحليل تلك المجتمعات الأشد قوة وأكثر تمدناً في العالم الحديث، وأن يثبت ان السبيل الوحيد في العصر الحاضر لتقوية الدول الإسلامية إنما هو في اقتباس الأفكار والمؤسسات عن اوروبا وإقناع المسلمين المحافظين بأن ذلك ليس مخالفاً للشريعة بل منسجماً مع روحها. وفي الوقت نفسه، لم يكن خير الدين بالغافل، عن خطر اوروبا، إذ علينا هنا ألا ننسى ان سياسة خير الدين نفسه، طوال عشرين سنة امضاها في المواقع السياسية في تونس، ظلت – ووفق ما يؤكد دارسوه – ذات شقين: محاولة صد النفوذ الأوروبي بالنفوذ التركي من جهة، وإقامة بعض الرقابة الدستورية على سلطة الباي في تونس، من جهة اخرى. والحال ان الدافع الأساس الذي كان دفع خير الدين الى التوجه الى الآستانة، إنما كان إنقاذ تونس من مخالب فرنسا، بربطها أكثر بالباب العالي. ويقيناً هنا ان هذا الموقف السياسي، لم يبد لخير الدين متناقضاً مع ضرورة الإفادة من التجربة السياسية الأوروبية والفرنسية بخاصة «لما فيه مصلحة المسلمين».
> وحسبنا للتشديد على هذا ان ننقل حرفياً، بعض أبرز ما قاله خير الدين في هذا المجال، في مقدمته: «من دواعي الأسف ان هذه النظرة (المعادية والرافضة) الى المدنية الغربية لا تزال تؤثر في بعض البيئات في الأمم الإسلامية وإن اختلفت درجاتها في الإصغاء الى هذه الدعوة كالتخفيف من تعليم المرأة ومن الاستمداد من التشريع الحديث. ولعل هذا من الأسباب التي جعلت النصارى والمسلمين إذا اجتمعوا في قطر واحد، كان النصارى أسبق الى تشرب المدنية الغربية والإفادة منها، ثم يأتي بعض الناس فينسبون ذلك الى طبيعة الإسلام، والإسلام لا يمنع ان يقتبس الصالح من الأمر حيث كان وممن كان». «أما هؤلاء الذين يقولون ان المدنية الغربية لا تناسب الأمم الإسلامية لموقفها الاجتماعي فنقول لهم: إن أوروبا عندما بدأت نهضتها كانت اسوأ حالاً منا. والأمة الإسلامية – كما يشهد المنصفون – لها من عقليتها واستعدادها وسابق مدنيتها ما يمكنها من السير في هذا المجال إذا أذكيت حريتها الكامنة، فالحرية والطموح غريزتان في المسلمين تأصلتا فيهم بتعاليم دينهم». «إن العدل والحرية هما ركنا الدولة، وهما اللذان كانا في المملكة الإسلامية فأزهرت ثم فقدا فذبلت. ولم يكونا في الدول الأوروبية فانتابها الضعف والفساد، ثم كانا فصلح حالها». و»الحق ان الأمم الإسلامية لا تصلح إلا بالنظام الشوري الذي يقيّد الحاكم». و«الحق ايضاً ان الذين يقفون امام هذه الدعوة الى الإصلاح إما جهلة لا يعرفون كيف تقدم العالم وكيف اصلح عيوبه وأسس نظمه (…) وإما قوم يعلمون وجوه الإصلاح ومزاياه، ولكنهم يرون انها تسلبهم منافعهم الشخصية التي تتوافر لهم بالاستبداد والفوضى ولا تتوافر بالنظام». ويخلص التونسي هنا الى ان من «اهم العوائق في تقدم المسلمين وجود طائفتين متعاندتين: رجال دين يعلمون الشريعة ولا يعلمون الدنيا (…) ورجال سياسة يعرفون الدنيا ولا يعرفون الدين».
> ولد خير الدين العام 1810 في القوقاز لعائلة شركسية وحُمل فتى الى اسطنبول كمملوك عند احد الزعماء، ثم ألحق بخدمة احمد باي تونس وتلقى تربية دينية وعصرية وتعلم الفرنسية والعربية فضلاً عن التركية. ولما انهى دروسه دخل الجيش وأكسبته مواهبه عطف الباي، فراح يعهد إليه بالمهمات والمناصب، وبدأ يبعث به تارة الى باريس وطوراً الى الآستانة. وعيّنه بعد ذلك وزيراً للبحرية… وهو، بدوره، خاض انطلاقاً من موقعه القوي سياسة اصلاحية وكان له شأن في لجنة وضع الدستور، ثم صار رئيساً لمجلس الشورى. وفي اواخر الستينات أرسل في مهمة سرية الى عاصمة الخلافة، ثم أرسل في مهمة سرية اخرى، وكان اصبح من كبار رجال الدولة وتقلد مناصب عدة بما فيها رئاسة الحكومة… لكن الأمر انتهى بالباي الى التخلي عنه في العام 1877، إذ رأى لديه ميلاً الى الإنكليز. فانتقل خير الدين الى الآستانة حيث كان السلطان عبدالحميد قرأ كتابه وأعجب به. وتولى لاحقاً منصب الصدر الأعظم في العام 1878، لكن عزه الجديد لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما عزله السلطان في العام 1879، ليعيش في اسطنبول في شبه عزلة انتهت بموته في العام 1899.

عن الحياة

التعليقات مغلقة.