«نهاية المجتمعات»/أحمد بيضون
على الرغم ممّا نحن فيه أو بسببه، على الأرجح، ينزل علينا عنوان الكتاب الأخير لآلان تورين «نهاية المجتمعات» نزول الصاعقة. قد يكون كتاب فوكوياما الشهير قد أشعرنا، قبل ربع قرن تقريباً، بصدمة مشابهة… ولكن فوكوياما كان يزفّ إلينا بشرى (لم يتأخر كذبها في الظهور) فيما يضعنا تورين وجهاً لوجه أمام ما يشبه أن يكون كارثة.
أصدر تورين هذا الكتاب الضخم (666 صفحة) في السنة الماضية وهو على مشارف التسعين. لذا نفهم أن يُعتبر الكتاب، في كلمة التعريف بالمؤلّف على الصفحة الرابعة من الغلاف، «تتويجاً» لنصف قرنٍ من السعي العلمي أثمر نحواً من أربعين كتاباً ووضع صاحبه في الصدارة بين اجتماعيي هذا العصر.
وفي الصدارة من سعي تورين يقع… «السعي»: إذا قَبِلنا هذا المصطلح مقابلاً عربياً لمصطلحين معاً هما «العمل» الذي يبتغي الإنتاج و»العمل» أيضاً بمعنى الفعل أو تسلسل الأفعال الذي يبتغي تغيير وضعٍ من الأوضاع. هذا المنطلق يضع تورين في وجه مدرسةٍ أخرى مثّلها، في أيّامه، البنيويون على التخصيص، وهي تلك التي ترى للبنى وللتغيّر فيها منطقاً يسوغ أو لا يسوغ اعتباره مستقلّاً عن إرادة المعنيين بالتغيير ولكنّه يستوعب هذه الإرادة معيّناً لها اتّجاهها ويجعلها عنصراً من عناصر فعله أو وسيلةً من وسائل إفضائه إلى تشكيلٍ جديدٍ يتّخذه.
لا ينكر تورين فاعلية البنى بل هو بعيد كلّ البعد عن هذا الإنكار. ولكنّه، في تعريفه للـ»اجتماعي»، يحكّم في تلك البنى ما يسمّيه «مؤسّسات» المجتمع. وفي المؤسّسات تتجسّد «الذات» التي تحتلّ موقع المركز من تصوّر تورين للمجتمع وبها تعود الإرادة إلى الظهور في عمل المجتمع وفي تاريخه. على أن هذا المجتمع الذي يعرّف بالمؤسّسات، ليس أيّ مجتمع كان. وإنّما هو مجتمع «متأرّخ» ضالعٌ في الحداثة يتميّز عمّا سبقه وعمّا يغايره من المجتمعات بإقباله على إنتاج نفسه وهو ما يسند نظريّة «الذات». والحداثة يراها تورين قائمةً ويرى أن «ما بعدها» هو الذي مضى وانقضى. هذا وما يسمّى مؤسّسات في هذا المجتمع مختلفٌ عن وحدات الاجتماع التقليدي من قبيل الطائفة أو القبيلة… إذ هذه تقصُر سعيها على تأمين بقائها أي على مقاومة الدواعي إلى التغيير ومداورتها. هذا بينما تتولّى مؤسّسات المجتمع الحديث من العائلة النووية إلى المدرسة إلى الاقتصاد الرأسمالي إلى السياسة والدولة مهامّ استقبال التغيير وسياسته واستيعابه.
وفي منطق الحداثة أن تكون «الذات» المجتمعية ماثلة في هذه المؤسّسات وفاعلة فيها وبتوسّطها. ولكن الماضي والتقليد يستبقيان ثقلاً يرزح على حركة المؤسّسات ولا يمكن أن يكون التحلل منهما باتّاً. بل إن ثقلهما ينحو إلى تفاقمٍ وإلى مقاومةٍ لما هو مفترض الاستجابة من دواعي التغيير. ذاك ما يستثير ما يسمّيه تورين «الحركات الاجتماعية». وهذه مختلفة عن حركات المطالبة العارضة أو الموضعية، مهما تكن شدّة هذه الأخيرة واتّساعها. وذاك أن «الحركات» التي يوليها المؤلّف عنايته تتميّز بمنازعة القوى المسيطرة في المجتمع شرعية سيطرتها باسم حقوقٍ عليا هي الحصن الأخير للاجتماع الحديث. وأمّا «الذات» المريدة التي تجسّدها هذه «الحركات» في سعيها إلى إعادة تعريف المؤسّسات وإعادة توزيع الشرعية فهي ماثلة في الأفراد أيضاً. وهي تظهر في كلّ موطن من المجتمع تظهر فيه إرادة مسندة، في منتهى أمرها، إلى الحقوق العليا للأفراد بما هم بشر.
يرى تورين أن الواقعة الأولى التي تبيح القول بـ»نهاية المجتمعات» أو بنهاية «الاجتماعي» إنّما هي انفصال دوران الاقتصاد المعولم، وبخاصّةٍ منه رأس المال المالي، عن الدائرة التي يصل إليها فعل مؤسّسات المجتمع بما فيها الدولة. وهو ما أسفر عن تضعضع هذه المؤسّسات بعد أن أصبحت مناسبتها للغاية المفترضة لوجودها موضع شكّ وطعنٍ مشروعين. فحركات المطالبة الاقتصادية-الاجتماعية لا يصل فعلها إلى مواقع السلطة المتحكّمة بأهمّ مقاليد القرار في مضمار مطالبتها. والسياسة الداخلية، بمؤسّساتها المعلومة، أصبحت ضامرة المضمون معرّضةً لتيّاراتٍ عابرة لحدود الدول. وأصبحت المدرسة بفعل ذواء الحدود بين أسواق العمل مضطربة الصلة بحاجات المجتمع الوطني إلى التأطير. وتخلخل التعريف المألوف للعائلة وتكاثرت مسمّيات هذا الاسم بفعل استشراء الطلاق وكثرة المواليد في خارج الزواج وتشريع الزواج المثلي والتبني للمثليين، إلخ.
وفي كلّ حالٍ، تبقى الواقعة الصاعقة وقوع المحاسبة على القرارت التي تحدث أبلغ الأثر في بنى المجتمعات ووقوع إمكان الإبطال أو التعديل في خارج متناول المجتمعات ذات الصلة. هذا وتفعل واقعة الانفصال هذه فعلها، وفي ركابها آثارها المزلزلة في المؤسسات الاجتماعية، في المجتمعات التي كانت موائل الحداثة الأولى أي في الغرب. ولكن المجتمعات الأخرى، ومن بينها مجتمعاتنا التي يلمّ تورين ببعض ما شهدته من حركات التغيير في هذه الأعوام الأخيرة وببعض المشكلات التي يطرحها الإسلام أو تطرح عليه في البلاد الإسلامية وفي المهاجر.
ولعلّ أهمّ ما يستوقفنا في الكتاب هذا الاختلاف، على التحديد، بين ما تثمره وتبدو مفضية إليه أزمات الاجتماع الغربي وما يقابله في مجتمعاتنا. فمن ذلك ما هو مشترك وهو الارتداد المتباين النطاق، ممّا يطلق عليه سَلفٌ مشهورٌ لتورين هو الألماني فرديناند تونيز اسم «الاجتماعي» إلى ما يخصّه بصفة «الجماعيّ» أو «الطائفي» بمعنىً واسع للكلمة يشتمل على الديني وعلى غيره. يبدو الطائفي، في الغرب، تحدّياً قائماً للاجتماعي ولكنه يلفي في مواجهته أنظمةً حقوقية راسخة تكفلها الدول التي يرفض تورين القول بزوالها. وتجهد لتفعيل هذه الأنظمة ومدّها إلى آفاقٍ جديدة حركاتٌ اجتماعية (يرى تورين في مقدّمها الحركة النسائية) متعلّقة بقيمتي الحرّية والمساواة وبالحقوق الكلّية التي هي مناط «الذات». هذه الحقوق تقتضي، بحسب المؤلّف، أن تنشأ لها مرجعيّات تستجيب للتحدّي الذي تواجه به العولمة جملةَ الحركات المتعلّقة بها.
عليه لا يمثّل الارتداد إلى جماعات التقليد، في الغرب، من دينية وغيرها، سوى تحدٍّ موضعي قد يصبح عويصاً ولكنه ليس بقاتل. هذا فيما لا تجد الطائفية، عندنا، في مواجهتها، تقليداً حقوقياً راسخاً يتصدّى لها من خارج الدين أو من داخله. ولا هي تجد قوىً اجتماعية ذات بأس ترفع في وجهها راية الحقوق الكلّية. فهذا كلّه بقي هشّاً ضحلَ الجذور في ديارنا. وما يستثير الطائفية ويشدّ من أزرها، قبل كلّ شيء، إنّما هو التنازع بين طائفياتٍ يسعفها انتحالها قِيَمَ الدين في النطاقين الإقليمي والوطني. ومدوّنة الدين جدالية فيها ما يعترض على كلّ تأويل لأحكامها وليس فيها ما يبيح القطع بنقضه. هذا وحين تنتحل أنظمة الدول ههنا مناوأة الطائفية باسم المواطنة تجد نفسها متّهمةً بالطائفية، هي نفسها، ومنقوصة الشرعيّة، في كلّ حال، وفقيرةً، من جرّاء الفساد الهيكلي والاستبداد، إلى الجاذبية أو المقبولية. وأمّا مساعي التجاوز في مواجهة الأنظمة فتبقى هامشيّةً أو هي تقمع بلا حدّ إذا اشتدّ أزرها وغامرت بالخروج من حال السَتر.
لا تَناظُر بين الحالين إذن. والكتاب الذي يعرّج على أوضاع متفرّقة في العالم ذكرنا من بينها مجريات «الربيع العربي» وأحوال العالم الإسلامي يبقى كتاباً غربي الإلهام ولا يقفل، فيما يتعدّى وصفه الصارم لأزمة المجتمعات الغربية، آفاق الحلول هناك. ولكنّه يكشف بالتضادّ الفارق بين عالمين: عالمٍ (هو الغربي) تتضعضع فيه مؤسّسات المجتمع ولكنّه يستبقي احتمالات للتجدّد تستلهم تراثاً حقوقياً راسخ القواعد وعظيم القدرة على استقطاب الولاء… وعالمٍ آخر هو عالمنا يكشف التضعضعُ نفسه فيه افتقارَه إلى منظومةِ قِيَمٍ وحقوقٍ وإلى قوىً متشبّثة بهذه وبتلك يدخل بهما غير معصوب العينين مرحلةً جديدة من تاريخ العالم افتُتِحَت قبل عقود ويثبت جدارته للاشتراك في توجيه دفّتها.
لا حاجة إلى القول، من بَعْدُ، أن كتاب تورين مستوجبُ القراءة ويوجب ذلك المسارعةَ إلى نقله إلى العربية ولكن بما يقتضيه أسلوباً ومضموناً من عناية وكفاءة.
عن القدس العربي
التعليقات مغلقة.