تحقيق ميداني مصّور من الشمال السوري فتيات كرديات يكبّلن رجال «داعش»

68

Nawafez4.gifوانت تقترب من المركز الذي تتدرب فيه « وحدات حماية المرأة «، كفصيل عسكري كردي في مناطق روجآفا (الجزيرة السورية)، وحدات عسكرية خاصة بالمرأة، ويرمز لها بالاحرف الكردية الأولى من إسمها YPJ (Yekineyen parastina jinan) ، تستوقفك على الباب فتاة في مقتبل العمر، ترتدي زيا عسكرياً، تلف رأسها بلفحة كردية خضراء، تتوزع على أطرافها نقوش من ألوان عديدة.. ورود صغيرة و وريقات مرسومة بعناية، مطرزة على « لفحة الشال« وبعد ان تعرفت عليّ، وقبل أن تسمح لي بالدخول إلى باحة المركز أو الأكاديمية كما تسمى، سألتها ان كانت اللفحة أو الشال الذي تلفه على رأسها له علاقة بالزي العسكري أم بمعتقد ما، فابتسمت خجولة وهي ترد:» لا.. فقط لأنها جميلة.. كانت جداتنا ترتديها كقطعة مكملة للزي الكردي التقليدي».

المركز الذي تتدرب فيه وحدات حماية المرأة الـ YPJ يبدو نظيفا كعين الديك، ولا يشي أبداً بأنه مكان عسكري للتدريب، إذ تكون مثل هذه الأماكن عادة مليئة بمخلفات الطعام، وحاجيات العسكر، وفوضاهم المجلجلة: « انه بيتنا، نأكل فيه ونتدرب فيه، ونقرأ فيه، وننام، فلماذا لا يكون نظيفا كغرفنا العادية؟» تجيب إحدى المقاتلات على دهشتي الأولى.

وعرفت منهن أن يومهن يبدأ بالتفقد اليومي، ثم التمارين الرياضية، وبعد ذلك استراحة الفطور الصباحي، حيث يتناولن الطعام في قاعة نظيفة تشبه أي صالة في مطعم أنيق، فقط هنا تكون طاولات الطعام موصولة ببعضها، على خط طولي، تدخل المقاتلات القاعة، وتأخذ كل منهن مكانها أمام صحنها الفارغ، لتبدأ كل واحدة وبالتناوب على سكب ما تختاره في صحنها، وبعد الانتهاء من ذلك يقفن جميعهن باستعداد عسكري، لتقول مسؤولة المطبخ لذاك اليوم وبصوت جهوري: «صباح الخير ايتها الرفيقات، تفضلوا إلى الفطور، وهنيئاً« ، فترد عليها المجموعة بصوت واحد: «صباح النور، شكرا وصحة للجميع«. ثم تأخذ كل واحدة مكانها على كرسيها لتتناول الفطور، وهن يتبادلن النكات والتعليقات المرحة. وعند الانتهاء تأخذ كل واحدة صحنها لتتجه إلى المغسلة وتغسله ثم تعيده الى رف البورسلان، فوق مغسلة المطبخ. كان الفطور لهذا الصباح مربى المشمش وقطع من الجبنة الكردية واللبن الرائب والزعتر.

بعد استراحة الطعام تجمعت الفتيات في الباحة، وتوزعن إلى مجموعات عديدة، منهن من ذهبن لحضور الدروس الفكرية والسياسية ومنهن من توجهن إلى حيث التدريب على السلاح، حضرت جانباً من الدروس الفكرية والسياسية، إذ كانت «المدربة« تشرح لهن عن تاريخ السومريين، والمراحل الاقتصادية والاجتماعية التي مر بها المجتمع السومري، ودور الكهنة في تهميش المرأة وسلبها لهويتها، ومكانتها من قبل في تلك المجتمعات. وبين الحين والآخر، تسأل المدربة ان كان لدى بعضهن تعليقاً أو استفساراً. الكثيرات يشاركن في النقاشات، والمقاربات بين وضع المرأة المعاصر وفي تلك العصور. في الاستراحة، اقتربت من إحداهن وطلبت التعرف على اسمها فذكرت لي اسمها المستعار» جيان قامشلو»، وسألتها عن رأيها بالدرس الذي سمعناه قبل قليل، فقالت لي: «ربما ستسألني لماذا العودة إلى مثل هذا التاريخ.. أي السومريين، فقد قرأنا قبل ذلك عن الحثيين والهوريين وكنا نهتم بخاصة بحياة المرأة في تلك المجتمعات وقد اكتشفنا أن المرأة في تلك العصور كانت في أعلى مراتب السلم الاجتماعي، وكن آلهات ورموزا للعطاء والخصب، وكانت لهن الكلمة العليا في المجتمعات البدائية، وللأسف فقد لحق الغبن والظلم المرأة كلما كانت تلك المجتمعات تتطور اقتصاديا وعسكريا، حتى كانت ثورة اكتشاف الزراعة ومن ثم الحديد.. ومن ثم هبوط الإله الى الأرض على شكل كاهن أو قديس.. فتراجع دور المرأة وغيبت وصارت مجرد آلة للتفريخ ومتعة الرجل.»

وقبل أن تسترسل جيان في حديثها التاريخي والطبقي سألتها، «ولكن جيان أنت هنا مقاتلة، لك مهمة حماية بلدك أو تحرير وطنك، فما علاقة ذلك بالخطط الحربية وبسلاح سوف تعلقينه على كتفك وتتجهين الى جبهات القتال«؟ فأجابتني بسرعة كما لو أنها كانت تنتظر مني ذلك السؤال، قائلة:» قبل أن أستطيع أو أفكر بتحرير أي شيء.. عليّ أن أحرر « مخي» من كل الدبق الذي لحقه من مدارس البعث، وتقاليد مجتمعاتنا. عليّ قبل ذلك أيضاً أن أفهم حركة التاريخ، كيف مساره .. كيف كانت المرأة، وبم مرت به عبر العصور، لأفهم أساساً لماذا أنا هنا في « وحدات حماية المرأة». إن حربنا هي حرب فكرية قبل كل شيء، نحن لا نواجه «داعش« كأفراد جلفين، يجزون رقاب البشر، لهم لحى كثة، وسحنات غريبة، نحن نحارب فكراً ظلامياً، رجعياً يريد العودة بنا إلى أسوأ مما نعيشه من قمع وكبت واستغلال جنسوي وفكري وانساني. ليست لي مشكلة مع أي أحد أكان أسود أم أصفر أم أبيض.. عربي أم كردي أم أميركي، سنّي علوي شيعي مسيحي، كل ذلك لا يهمني. يهمني كيف يفكر الآخر تجاهي، ولماذا لا يحترم خصوصيتي الإنسانية الجنسوية والقومية!».

سألت جيان: «كم عمرك وهل تدرسين؟ قالت إن عمرها بين العشرين والثلاثين، وعليّ أن اختار، وكانت طالبة في السنة الثالثة في كلية الآداب بجامعة حلب.

بعد ذلك اتجهت إلى زاوية أخرى خارج الأكاديمية، حيث يتم التدريب على السلاح، بين أيديهن بنادق كلاشنيكوف، يسددن على هدف مستحدث، وبين الرشقات وضحكاتهن. لاحظت أنهن منضبطات أكثر من اللزوم، وهن لا ينادين بعضهن بأسمائهن بل بكلمة «هفال» باللغة الكردية والتي تعني «الرفيقة». وتقدمت من إحدى «الهفالات» لأتحدث معها. بدت لي في بادئ الأمر خجولة جداً، وحاولت جاهدة أن أتحدث إلى غيرها، إلا أنني ألححت عليها أن تكون هي، فرضخت لمطلبي، وقالت «ولكن لا تسألني كثيرا عن خصوصياتي«! فسألتها ما تعنيه بـ « خصوصياتها» فقالت مثلا : إسمي الحقيقي أو إسم عائلتي وما شابه هذه الأمور، فوافقت.

«إسمي برخودان بوطان» عمري 24 سنة، شاركت بمعارك «سري كانيي« رأس العين، وتل تمر، وجزعة، كان لقواتنا تأثير كبير على سير المعارك، النساء يحميهن الغيم من غدر الداعشيين.. لي ثلاث رفيقات استشهدن خلال سنتين، لقد اقسمت أن أثأر لهن، نحن هنا لا نحب الثأر، لكن عندما أتذكر عيني دجلة وهيفين صديقتييّ الشهيدتين، أشعر بأن مسؤولية كبيرة تقع على عاتقي، واني مدينة بحياتي لهن لذلك لن أتراجع عما حلمن به.»

[سألتها، وبم كن يحلمن رفيقاتك؟

ـ قالت: أولا بحرية المرأة، ليست فقط المرأة الكردية، بل المرأة في كل مكان، نحن ندافع عن وجودنا أولاً، وقد أثبتنا في حركتنا أن المرأة تستطيع أن تقاتل تماماً كما تستطيع أن تقوم بتدبير البيت، وحتى خططنا العسكرية نحن من نضعها، وننفذها بدقة… نعمل من أجل التخلص وللأبد من أنظمة القمع والاستبداد، كالنظام السوري الذي دمر البلاد والبشر والفكر والثقافة، علينا أن نتخطى زمن البعث ونظامه، لقد صار بالنسبة لنا من الماضي، رغم جرائمه المستمرة حتى الآن في كل سوريا، وضد كل فئات الشعب السوري، إنه زائل لأنه خارج التاريخ«.

[هل تحدثينني عن مواجهة حدثت بينكم وبين داعش؟

ـ «نعم.. كنا نقترب منهم لأمتار أحياناً، وكنا نسمع أصواتهم، كانوا يغضبون جداً عندما يكتشفون أنهم يواجهون النساء، كانوا يقولون لبعضهم على أجهزة اللاسلكي: «تقتربوا من النقطة الفلانية كثيرا فهناك «نسوان». نحن بالنسبة لهم نسوان.. ولكننا علمناهم كيف هن الـ «نسوان«. كانوا أحياناً يهربون من أمامنا مرعوبين.. لا يهتمون بجرحاهم وجثث قتلاهم.»

[ولكنني سمعت بأنهم لا يريدون مواجهتكن لفتوى بينهم تقول: «من يُقتل على أيدي إمرأة من الـ YPJ فانه لن يدخل الجنة. هل هذا صحيح؟

ـ في كل الأحوال لن يدخلوا الجنة، نحن نرسلهم الى مكان آخر (…؟) ولكن صحيح ما قلته، كثيراً ما سمعنا من أسراهم أنهم يعتقدون فعلاً بأن قتلاهم على أيدي مقاتلاتنا لن يفوزوا بالجنة والحوريات.

[وسألتها هل يمكن أن تصفي لي لحظات القيام بعملية عسكرية او الدخول لمعركة؟

ـ «قبل كل شيء تجلس المجموعة المهاجمة أو المشاركة في المعركة، تدرس خطة الهجوم، والانسحاب إذا تطلب الأمر، ومن ثم جغرافية المنطقة، ونتزود بما يكفي من حاجيات المعركة من ماء وطعام وذخيرة.. ثم نودع بعضنا بعضاً، لكن قبل أن ننطلق نقوم بعقد حلقة دبكة، ندبك ونغني ونصفق، هي دبكة النصر «الببليكان« وكذلك عند العودة، وقبل أن نراجع تفاصيل العملية، نعقد حلقة الدبكة.. نحن شعب نغني في الحرب، وندبك كما في السلم.»

تركت برخودان، لأجد سما النحيلة الطويلة، السمراء، وبدت سحنتها لي أقرب الى العرب منها إلى الكرد، فسألتها عن ذلك، فابتسمت وأكدت لي أنها فعلاً عربية، انضمت لوحدات حماية المرأة، لأنها «تأكدت أن هذه الوحدات لا تهتم بالقوميات ولا بالأديان، بل بالإنسان « ورغم معارضة أهلها في البداية، إلا أنها استطاعت مع الأيام أن تثبت لهم أن: «إبنتهم لا تقل عن أخيها، وانها ومن خلال انخراطها في وحدات الـ YPJ استطاعت ان تغير الكثير من النظرة الدونية للمرأة، لاسيما في المجتمع العربي«.

[ وسألتها هل هناك صعوبات أن تكون عربية بين كل هذه الكرديات.

ـ فقالت: « لا أبداً.. هن لا يتعاملن معي من خلال قوميتي، بل من خلال شخصيتي وفكري، وهذا عام بالنسبة لنا جميعا، نحن نهدف لتحرير المرأة، المرأة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.»

ودلوني على «سيآل ديرك«، والتي يلقبونها بـ «صائدة الدواعش«، وهي في السادسة والعشرين من عمرها كما قالت لي هامسة.

[سألت سيآل: لماذا يلقبونك بصائدة الدواعش؟

أجابت بجدية: لأني أكثر من مرة استطعت أسر مقاتلين منهم، مرة أسرت إثنين معاً، ومرة أربعة، ومرة واحداً، وفي المرة الأخيرة، عندما أوصلت الأسير مكبلا إلى مكاننا، طلب منا كأس ماء، فقدمنا له، ولفت نظري أنه وضع الكأس أمامه، ثم فك من سلسلة رقبته، مفتاحاً بطول 20 سم تقريباً ( يشبه مفاتيح الأبواب الكبيرة في الريف) بعدها أخذ المفتاح بيده، وغطسه في قدح الماء.. وأخرجه، كرر ذلك ثلاث مرات، ثم شرب الكأس، ونهض، أدار ظهره لنا ومشى، وبعد خطوات أمرناه بالتوقف فلم يتوقف، عندها لقمت أحدى الرفيقات البندقية، فتوقف، التفت وهو يسألنا [ هل تقصدونني أن أتوقف؟

ـ قلنا: نعم،

[فبدت علامات الدهشة على محياه، وهو يهمس، هل ترونني الآن؟

ـ كان يعتقد بأنه ومن خلال غطس المفتاح في الماء وشربه سيجعل ذلك منه مخلوقاً لا مرئياً كما فهمّوه. هذا مؤسف.. إننا نضطر لندافع عن أنفسنا ضد هجمات هكذا بشر.. وهكذا ثقافة. نسيت أن أقول لك ـ أضافت سيآل ـ عندما كنت أسرهم، وطيلة الطريق، كانوا لا يرفعون أعينهم عن الأرض. لا أدري أكانوا يشعرون بالإهانة لأن امرأة أسرتهم، أم لأنهم يحجبون النظر دينياً.. وفي كلا الحالتين برأيي هي «مسخرة«. يا لمسخرة هكذا رجال»!

ثم استأذنت من سيآل ومن صديقاتها، وقبل أن أودعهن، اقتربت مني برخودان الخجولة وهي تهمس لي.

[ ألم تعرفني؟

ـ أنا إبنة عمتك!

تمعنت بها طويلاً، ولم أتذكرها جيداً.. لكن أنفها بدا تماما كأنف عمتي وطفا. و بقيت صورتها وصورة رفيقاتها من المقاتلات في ذهني، لا تغب عني صورهن، وكلما سمعت أن هناك هجوماً لداعش على القرى والبلدات الكردية في الجزيرة، أهمس لنفسي: طبعاً ستكون سيآل وبرخودان وسما وجيان ورفيقاتهن بخير.

طه خليل/ عن نوافذ المستقبل

التعليقات مغلقة.