رواية سليم بركات الجديدة: فلسفة الموت في واقعية شعرية هاذية

37

10qpt872«سلسلة من جرائم القتل يُقاضى مرتكبوها لا بما يقابل الجنايةَ فداحةً، بل بعقاب ملتبس في تساهله: ان يقدموا اعتذاراً إلى مَنْ قَتَلوا. والثمانية عشر نفراً في هذه الرواية، الذين تخيَّرتْهم الجرائم مصادفةً، أو قصداً، لانجاز حدوثها، سيقبلون شرطَ العقاب المحيِّر، متجهين صعوداً في الجبل إلى موطن القتلى، بلا أدلاَّء، أو خرائط يهتدون بها إلى مقصودهم. هذه الرواية عرض للجرائم، وتوصيفٌ لأحوال القَتَلة اجتمعوا غرباءَ أحدُهم عن الآخر، وتوثيق لأسئلتهم عن معنى صعود الجبل في مهمة كالعبث. لكنْ، أين هم ذاهبون حقًّا؟».
هذا هو التعريف المُعلن بالرواية، على الغلاف الخلفي. وهي هكذا، وأشياء أخرى تزدحم بها صفحاتها الـ 430 (صدرت مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان وبيروت، وجدير بالذكر ان الرواية مُنعت في الأردن). ربما ستستوقفنا جملة هي «إلى أين هم ذاهبون حقًّا؟». أهذا تلخيص العمل برمته؟ نتساءل بدورنا، بعد القراءة، مستعيرين الجملة ذاتها. فهؤلاء القتلة، الذين في طريقهم لتقديم اعتذار إلى مَنْ قَتَلوا، لا يعرفون الطريق. انهم يسلكون الجبل صعوداً، لاغير. هل سيصلون إلى القتلى ليقدموا اعتذارهم؟ لا أحد يملك جواباً.
القتلة، الذين تتحدث عنهم الرواية، أشخاص في مهن مختلفة: معلم رياضيات، مُبَشِّر، معلم رقص رياضي، محامية، طبيبة كلاب، طبيبة نفسانية، موزع بريد، لاعب كرة قدم، صانع حلويات… الخ. شخصيات كثيرة تتفرَّع عن علاقاتها شخصيات أكثر. كل واحد منهم ارتكب جريمة قتل إنسان قريب جداً منه. هناك من قتل أخته، أو أخاه، أو أمه، أو أباه، أو ابن أخته، أو ابنة أخته، أو ابنته، أو حفيده. قتل مفجع في تدفقه واستمراره، وهو ما يقودنا إلى انطباع بان كل إنسان مشروع قاتل محتَمَل.
المجموع، القائمون بهذه الرحلة، غرباء واحدهم عن الآخر. نساء ورجال وشبان في مقتبل العمر أيضاً يتصارحون عبر زمن الرحلة وما استغرقته بأسباب وجودهم، وأسباب المهمة التي قادتهم إلى طريق الجبل. تباعاً يعترفون. لكن الرواية ليست محصورة بعلاقاتهم الجديدة الناشئة وهم في الطريق الغريب. كل فصل من الفصول الستة عشر يعرض لحادثة قتل، وأسبابها، وبعض خلفيات هؤلاء الذين ارتكبوا جرائمهم، حتى ان كل فصل كانه رواية بذاته، لتعدُّد الأشخاص داخله، وكل فصل، عدا ما يرويه ويصفه من جريمة القتل يحتوي طبعاً على سرد للرحلة، وعلاقة الأشخاص الغرباء بعضهم ببعض، كما يتضمن ان يروي أحدهم حكاية طريفة للسَّمر في مساء كل يوم من أيامهم. ثلاث طرق للسرد تتم داخل الفصل الواحد، مما يجعل مجموع الرواية الكبيرة هذه سجلاًّ ضخماً لحكايات تتراصف وتتداخل، بثراء، في مشاهد واسعة جدًّا.
لا يمكن تصنيف الحوارات لشدة تشعباتها، وأسئلتها وطرافتها. انها واقعية، وشعرية، أحيانا، وفلسفية أحياناً. حكيمة وهاذية ومجنونة، وساخرة إلى درجة الانفجار. أشخاص بأمزجة مختلفة جدًّا، وخلفيات ثقافية متفاوتة، جمعتهم الرحلة التي لم تبدِّل أساليب المحاورات بينهم. بعضهم يستفهم ما يقوله البعض. وبعضهم يتجاهل لأنه عاجز عن الفهم وبعضهم يتعمَّد ان يقلِّد البعض.
ربما يلتبس علينا الزمن في الرواية، لا بسبب طريقة الحوارات فقط، بل لأن المكان الذي يسلكونه، من السجن حتى سفوح الجبل، يبدو قديماً جداً مع ادعاء بعضهم ان حرباً جرت في تلك الأرض طوال 800 عام. والمدينة نفسها التي سكنوها تبدو حديثة كمدن عالمنا أحياناً، وغريبة جداً أحياناً. حتى الوقائع تبدو مقسومة على أزمنة متناقضة أو متباعدة بفراغ لايمكن تقديره إلا بالخيال.
السجن نفسه الذي دخلوه بعد حدوث الجرائم، كهف في الأصل، جرى توسيعه عبر القرون في كتلة حجرية داخل الجبل الشرقي. وسَّعته سلطات الدولة المتعاقبة حتى بات كمدينة محجوبة. له شرفة غريبة بقضبان تحجزها في الصخر، مشرفة على شلالين كبيرين. وفي هذا السجن يستقبلهم شخص لا تفصح الرواية عن هويته إلا في السطور الأخيرة، فإذا هو الطبيب الشرعي المشرف على توثيق الإعدام، وهو الذي يقترح عليهم الخروج من السجن مقابل تقديم اعتذار إلى القتلى. انهم أثناء الرحلة يسخرون من الاقتراح الغريب، ويستهزئون به، لكنه اقتراح أوجد لهم مخرجاً من السجن على كل حال. اسم الشخص أشبه بأسماء الأساطير، أو الشبح الذي يعبر الأحياء على قاربه إلى مملكة الموتى.
مشاهد الرواية في خاتمتها تشبه رؤيا خرافية. انهم يلتقون أخيراً، في مكان من آثار محطمة ومنهارة، بامرأتين من أكثر الأشكال غرابة، قد تذكرنا ببعض الملامح الغريبة في رواية بركات السابقة «حورية الماء وبناتها». المرأتان مائيتان أيضاً. لا أعني جسديهما بل الوجهين والأيدي، فهي ماء في غشاء جلدي شفاف. وهما تبلِّغان مجموع أفراد الرحلة انها انتهت في المكان الذي قابلتاهم فيه، وان عليهم ترميم آثار كثيرة متهدمة في ذلك الموقع. لكنهم يستنكرون، على وقع يقظة ذاكرتهم واحداً واحداً حول ما جرى لهم قبل إطلاقهم من السجن، انهم لم يغادروا السجن، والرحلة كلها من نسج اللحظة التي غاص فيها واحدهم في خدر الموت بعد حقنه بإبرة من مخدِّر قاتل هو وسيلة الإعدام في ذلك السجن. يستنكرون طلب المرأتين وقد عرفوا انهم هم موتى، ثم يخلعون ثيابهم ويكملون صعود الجبل وهم عراة.
أكل إنسان هو مشروع قاتل؟ انه واحد من أسئلة الرواية. لكن السؤال الذي ينطبع في الذاكرة بإلحاح هو: ما الموت؟ أهو شكل آخر من أشكال الحياة كصعود الجبل بلا معرفة إلى أين؟ الموت يسير متجسداً في هيئات أولئك الأشخاص، من أول الرواية إلى آخرها من غير إشارة صريحة إلى ذلك. الموتُ هو مؤلِّف مسيرة الجماعة في رحلتهم المتوهمة. نحن لا نعرف انهم قَتَلة أُعدموا، وهم لايعرفون انهم موتى أُعدموا. هناك مسألة الاعتذار التي يرونها سبباً غير مفهوم لإطلاق سراحهم من السجن (سنفهم ذلك في ختام الرواية)، وهم يستخفُّون بأمر هذا المخرج العبثي. لكنهم متهيبون لأنه ليس لدى أحد منهم فكرة عما سيفعل إذا التقى الشخصَ الذي قتله.
إذا كانت رواية سليم بركات السابقة «حورية الماء وبناتها» (وهي مجابهة بين أناس مفترسين) رحلة إلى الجحيم أو عودة من الجحيم، فهذه رحلة أخرى في الموت بلا تصورات عما يلي ذلك: عراة يصعدون جبلاً.وليد هرمز/ عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.