أشغال لغوية وموسيقى للشعر في «كشتبان» الفلسطيني زكريا محمد

55

0cee3f2ab3b843cd9914f95395b23b3f

\ يواصل الشاعر الفلسطيني زكريا محمد رحلته مع الشعر من محطة جديدة مختلفة، محطة تعبّر عن ثنائية المواصلة والانقطاع، فهو من جهة يواصل تجربة طويلة ومكثفة مع الشعر (أربعة عقود من الزمن)، ومن جهة ثانية هو يُحدث انقطاعاً مع تلك التجربة، بما يُحدث نقلة نوعية واختراقاً جديداً فيها. وهنا إطلالة على هذه التجربة من خلال كتابه الجديد «كشتبان» (دار الناشر، رام الله)

«كشتبان» زكريا هي المجموعة الشعرية السادسة بعد «قصائد أخيرة» (1981)، «أشغال يدوية» (1990)، «ضربة شمس» (2003)، «الجواد يجتاز أسكدار» ( 1994)، و«أحجار البهت» (2008)، فضلاً عن روايتين هما «العين المعتمة» (1996) و«عصا الراعي» (2003)، وعدد من الكتب والدراسات في التاريخ الفلسطيني، والميثولوجيا، وتاريخ أديان العرب قبل الإسلام.

المجموعة الجديدة (246 صفحة) تذكّرنا بمجموعة زكريا «أشغال يدوية» (1990)، ليس من حيث عنوانها فقط، بل من حيث «أدوات» الاشتغال والرؤية إليها، فمن بين تلك «الأشغال اليدوية» حرفة التطريز التي نجد أحد عناصرها في اسم الـ «كشتبان». وهو، وفق المعاجم واحد من اثنين: قد يكون الـ «قِمَع الذي يغطِّي طَرَفَ إِصبع الخيَّاط ليَقِيهُ وَخْزَ الإِبر»، لكنّه في الموسيقى «قطعةٌ من المعدِن مفتوحةُ الطَّرَفين، تُلبَسُ في السّبَّابَة، ويضرب بها على القانون». وأنا ميّال إلى الأخذ بعالَمَي التطريز والموسيقى معاً، فهما فضاءان يتداخلان ويتعاونان في إنجاز صنيع الشاعر.

زكريا هنا، كما في «أشغال كشتبانه» كلها تقريباً، هو صانع ماهر، يلتقط فكرته ويشتغل عليها – حتى لو نشرها في جداره على «الفايسبوك» كما يعلن في تقديم المجموعة الحالية – إنما ليختبر مدى تفاعل القارئ مع هذا النص، بما يتيح إجراء تعديلات لاحقاً، معتقداً أن «الشعر (كما يبدو) كان هو الأكثر استعداداً للتعامل مع الفايسبوك. وربما كان هو الأكثر استفادة منه. وأياً كان الأمر، فأنا على استعداد للإقرار بما فعله الفايسبوك أياً كان مقداره، إن كان قد فعل شيئاً في الحقيقة».

فالكتابة على الفايسبوك عنده «لم تكن حدثاً إلكترونيا فقط. بل كانت تصعيداً كاملاً لعزلتي». ثم إنه يدخل من أبواب التكنولوجيا لتعريف العالم به «إذا متّ فافتحوا إيميلي. الباسوورد على ورقة فوق الطاولة. هناك ستجدون وصيّتي، وستمسكون بالغزال من قرنيه». وليس بعيداً من هذا الإطار، تجيء علاقته مع الشعر ورؤيته إليه، فهو يرى أو يعتقد أن «الشعر يكذب»، وهو يتحدث عن التحوّلات في قوله «أنا أتغيّر. الكلمات تتغيّر. وتبقى الكلمات بالنسبة إليه هي «عبيد تؤخذ بالصرخة والعصا».

جاءت المجموعة نتاج عمل في اتجاهين متمازجين، الروح التراثية ممزوجة بنبرة حداثية ويومية شديدة الحيوية. فمن حيث اللغة، تحضر لغة تشتبك فيها المفردات اليومية مع التراثية، لغة حادة وخشنة ومسنّنة، تنتمي إلى البحث والتجريب والحفر في الفضاءات غير المألوفة. لغة تأمّلات و«حكمة» وتصوير واستعارات غرائبية/ سورياليّة، تستعير مفرداتها من الطبيعة والحياة العادية والخُرافية في آن. لغة يمكن القول إنها «مشغولة ومحبوكة» بأناة ووعي كاملين.

عوالم زكريا هنا تتوسع، وتتعمّق. فالقصيدة تتكئ على مفردات الطبيعة وكائناتها، وعلى فصول العام ومواصفاتها وعلاقة الشاعر (شخص القصيدة) بها، وبما تنتج من تفاصيل على صعيد الأحوال والمقامات النفسية والشعورية/ العاطفية، والحياتية بما تنتج من ثمار، إذ نجد لكل فصل عاداته وتمايزه والتباساته التي يجري نحتُها من خلال تجربة ومعايشة حياتية وثقافية عميقة.

هذا هو ما يعبر عنه في غير مكان من قصائده، يقول: «أردت دوماً أن أختصر الكون إلى عناصره الأولية». فيتوصل إلى أن الكون هذا «مكون من نخلة وشيئين آخرين: الحب، الشِعر». وهذه بعض خلاصاته الشعرية التي تتلبس لبوس الحكمة، من دون أن تتكئ على معطيات عقلية أو منطقيّة، بمقدار اتكائها على الحدس والهواجس والمتخيّلات، أي على شعريّة الحالة. فهو يرى اليد بوصفها «عِرق نرجس في كأس ماء»، والفم «عروة زر مفتوحة على صدر قميص»، والشَّعر «حدأة طائرة». وعبر علاقته بالطيور يرى أن «الغناء للطيور الحمقاء/ أما طيور الصمت فتدير رؤوسها، بلا نأمة، بين الصخرة والحجر».

ثمة عدد من الثنائيات التي تشغل حيزاً في قصائد شاعرنا، أبرزها ثنائية الليل والنهار، ولكن من خلال التشبيه بالعلاقات الإنسانية، بحيث «النهار لا يعرف الليل، مثل جاري الذي يسكن الشقة المقابلة ولا أعرفه». أو «النهار كذبة قصيرة، أما الليل فبئر عميقة لا تنزح». وهناك ثنائية الماء والنار وعلاقتها بالسمو والدنوّ حيث «الماء فكرة القيعان، والنار فكرة التيجان». وكذلك الأمر في الثنائيات المتعلقة بالنور والظلام «شمس الغروب تقسم بسيفها البيت إلى نصفين: نصف معتم ونصف مضيء. وأنا سأجلس بين العتمة والنور. الماضي يتدفق خلفي كجدول، والمستقبل يزحف أمامي مثل حلزون. وأنا بلا زمن».

وفي فضاء العلاقة بالفصول، يقول «أنا والخريف شيخان بطّالان، لا عمل لهما، ولا يحسبان لشيء حساباً. يصعدان إلى قمة الجبل، مثل تيسي أروى، ويشربان من فم الزجاجة، بانتظار المغيب الكبير». ويحضر الصيف بمفرده «أيها الصيف المغرور بِتِينك وعِنَبك، يا من تعرض ما تعرض كي تضلّلني. لن أضِلّ بتينك وعنبك. سوف أحمل قربة الخريف على كتفي، وأكرز باسمه. وسوف أصعد التلة باحثاً عن ثمرة زعرور تبشّر بعودته». لكنّ الشاعر يحتفي بالخريف وبعلاقته مع الصيف، كقوله «بطيّونه الدبق، بعينه الصفراء، بيده المرتجفة»، ويرى كيف أن هذا الخريف سيطرد «الصيف المغرور المتعالي». أما الشتاء فيُبرز الشاعر سيئاته «لن أغني ديسمبر. ثلجه كسر غصني، وريحه فتحت ثوبي. أنا أحتمل برده فقط من أجل بصلة التوليب التي تغفو مثل طفلة في حضنه». ومع ذلك فالشتاء قد يعني الأمل: «لكن عندما يصل يأسي حدّه ويوشك أن يفتك بي، يحل تشرين ويسقط المطر».

وأخيراً، في العلاقة مع الموروث الشعري العربي، واستعارة الكثير من المفردات «القديمة» من الشعر العربي، ومن الجاهلي وما تلاه، يستعير الشاعر في القسم الأخير من المجموعة أبياتاً من الشعر القديم يوظّفها ضمن بناء قصيدته، فنقرأ: «الخيل إبل نسّاءة لا تعرف الحقد/ ففي كل دهر تأتي لحظة، تستعيد الخيل فيها ذاكرتها فجأة/ فيأخذها غضب عارم على اللجام والسرج والقيد والكون»، ويستعير بيتَ شِعرٍ منسوباً لأبي النجم العجلي، وهو شاعر أموي، يقول فيه: «تغضب أحياناً على الّلجام/ كغضب النار على الضرام»، ليخلص إلى القول «في لحظة الغضب هذه يهتزّ ميزان الكون وتتساقط الكواكب والنجوم».

عن الحياة

 

 

التعليقات مغلقة.