الإعلام… وأربع أزمات كاشفة

24

قبل أيام قليلة، احتفل العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لإعلان «اليوم العالمي لحرية الصحافة»، في تقليد استمر بلا انقطاع منذ عام 1993، حين أقرت الأمم المتحدة هذا الاحتفال، ليكون بمنزلة تكريس للمبادئ الأساسية لحرية الصحافة، وتذكير بضرورة الدفاع عن حق الصحافيين في الاستقلالية والحماية أثناء القيام بواجبهم، وتأكيد للدور الحيوي للإعلام في خدمة الجمهور، وتعزيز المصلحة العامة.

وقد كان الاحتفال بتلك الذكرى مناسبة مهمة للحديث عن الضغوط التي تواجهها الصحافة، وصناعة الإعلام بصفة عامة، في ظل متغيرات متسارعة، ألقت بظلالها المتباينة على الأدوار الإعلامية، وأثرت فيها تأثيراً شديداً.

ولذلك، فقد حرصت المقاربات البحثية والتحليلية المواكبة للاحتفالية السنوية على الإشارة إلى الانتهاكات والقيود التي واجهتها صناعة الإعلام خلال الفترة المنصرمة، وقد بدا أن هناك توافقاً على أن حرية الإعلام تعاني، وأن دور الصناعة المتصل اتصالاً مباشراً بالمصالح العامة للجمهور والمؤسسات والمجتمعات المختلفة يواجه مصاعب.

من جانبي، سأحاول أن أستعرض الطريقة التي تعاطى بها الإعلام مع أربع أزمات كاشفة شهدتها البشرية في الفترة الأخيرة، وما زالت تداعياتها ماثلة ومؤثرة حتى اللحظة الراهنة، أملاً في أن تشرح الاستجابة الإعلامية لهذه الأزمات المحددات والقيود والضغوط، التي تعانيها الصحافة في تلك الأثناء.

وتتعلق الأزمة الأولى بـ«كوفيد – 19»، ورغم أن الكثير من الكلام قيل في تقييم الاستجابة الإعلامية لهذا الوباء، فإن أفضل عنوان لهذه الاستجابة يمكن أن يكون: «جائحة معلوماتية».

نعم. كانت «الجائحة المعلوماتية» أكثر فتكاً، في بعض الأحيان، من الجائحة الطبيعية التي تجسّدت في الوباء نفسه، وقد خلصت معظم الدراسات والاستطلاعات الموثوقة التي قاربت هذه الحالة إلى خلاصة مُحزنة؛ إذ انتشرت المعلومات المُضللة كما النار في الهشيم، وتم حرف اتجاهات الجمهور إزاء الحقائق الأساسية المتعلقة بالحدث الخطير، وأخفق الإعلام في القيام بدوره على نحو مسؤول وناجع، في وقت تعرض فيه لضغوط وقيود شديدة، سواء في الدول المتقدمة أو العالم النامي.

وأما الأزمة الثانية، فتتصل بالحرب الروسية – الأوكرانية، التي سيمكن أن يكون عنوان الاستجابة الإعلامية العالمية لها مختزلاً في كلمتي: «الانكشاف والارتداد»؛ إذ اضطرب أداء المنظومات الإعلامية الغربية، ذات التاريخ الزاهر والخبرات المتراكمة، تحت وقع صدمة «غزو دولة أوروبية»، لتكشف عن عوار كامن، وترتد إلى ممارسات بدائية على الصعد المهنية والأخلاقية، وهي ممارسات لا تتسق مع مبادئ حرية الإعلام، ولا تحظى بأي قدر من الاتساق مع ميراثها المهني وأدبياتها الصحافية ودورها «المُلهم» المفترض.

وجاءت الأزمة الثالثة المتجسدة في الاقتتال السوداني – السوداني، لتكشف عن حقيقة مؤسفة فيما يتعلق بحالة الإعلام وحرية الصحافة، وعندما سنحاول أن نضع عنواناً للاستجابة الإعلامية لهذه الأزمة، فربما لن نجد سوى كلمتي: «التضارب والعتمة».

وفي هذا العالم الذي تتدفق فيه المعلومات على مدار الثانية الواحدة بغزارة وانسياب، وفي ظل منظومتين إعلاميتين ضخمتين ومتكاملتين (الإعلام التقليدي، والإعلام الجديد)، لم يكن هناك سوى عدد محدود جداً من «الحقائق» التي يمكن الاستناد إليها لاتخاذ قرار أو تكوين رأي بصدد الأزمة.

لقد نشر طرفا الأزمة السودانية، وأنصار كل منهما، والصحافيون، والمهتمون، والناس العاديون، والمؤسسات، والحكومات، «أطناناً» من «المعلومات»، بخصوص تلك الأزمة وتفاصيلها، لكن أحداً لم يكن قادراً على الحصول على وصف قريب من الدقة لما يحدث على الأرض.

وعلى عكس ما جرى خلال الأزمات الثلاث السابقة، فقد كانت الأزمة الرابعة المتعلقة بالزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، في وقت سابق من العام الحالي، فرصة جيدة لاستعادة بعض الثقة في الأداء الإعلامي المواكب للأزمات والأحداث الكبرى. ففي تلك الأزمة، نجحت المنظومات الصحافية المعنية بالتغطية، إلى حد كبير، في الوفاء بقدر مناسب من المعايير المهنية والأخلاقية، كما انحسرت الضغوط والقيود المعوقة للتغطيات بدرجة واضحة، ما أثمر تغطية ناجحة، عززت المعرفة العامة بالكارثة، وبلورت رأياً عاماً متحرراً، إلى حد ما، من التدخلات غير المهنية.

وعندما سنبحث عن كلمة السر في هذا التناقض الواضح بين «الجائحة المعلوماتية» في تغطية «كوفيد – 19»، و«الانكشاف والارتداد»، في مقاربة «الحرب الروسية – الأوكرانية»، و«التضارب والعتمة» في مواكبة «الأزمة السودانية» من جانب، والتغطية المسؤولة نسبياً لأزمة زلزال شرق المتوسط، من جانب آخر، ستظهر كلمتان: «تضارب المصالح».

بسبب تضارب مصالح أطراف الأزمات الثلاث الأولى، ومناصريهم، والمؤسسات والآليات الإعلامية التابعة لهم، زادت قابلية التغطيات الإعلامية للاختراق، وتضرّرت حرية الصحافة ومبادئها وأخلاقياتها بوضوح، بينما كانت أزمة الزلزال أقل قابلية للخضوع لمقتضيات تضارب المصالح بسبب طبيعتها الإنسانية؛ وهو الأمر الذي يكشف عن منظومة إعلامية دولية ما زالت تعاني قدراً من الهشاشة والقابلية للاختراق.

د. ياسر عبد العزيز

المصدر: الشرق الاوسط

التعليقات مغلقة.