النسخة الإسرائيلية من “داعش”
يتحدث كثيرون عما يسمونه “التطرف الإسلامي”، ونمو نزعة التدين في بلادنا العربية، ويحتدم النقاش بشأن تمدد هذه الظاهرة، واسحقاقاتها على “المدنية الغربية” ومسحة الدولة “المدنية” في بلاد العرب، لكن قلة قليلة تنتبه إلى ظاهرة موازية في الكيان الإسرائيلي، وهي تعاظم سيطرة المتدينين اليهود على مقدرات الحياة هناك، مع ما تشكله هذه السيطرة من أثر على طريقة تعامل اليهود مع الفلسطينيين ومقدساتهم بشكل خاص، وبقية “الأغيار” من سكان الكوكب!
وللإحاطة بحجم ظاهرة التدين اليهودي، لا بد من استحضار أرقام، تُعرّف بمدى تغلغل المتدينين اليهود في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تحديداً، وبالتالي، حجم تأثيرهم في إسرائيل، ناهيك، طبعاً، عن تغلغل هؤلاء في البنى السياسية والاجتماعية. وينقل الباحث الفلسطيني، صالح النعامي، عن يعكوف بيري، الرئيس الأسبق لـ “الشاباك” في كتابه “القادم لقتلك، عجل واقتله”، قوله، إنه حتى مطلع الثمانينيات لم يكن لأتباع التيار الديني الصهيوني تمثيل في “الشاباك” (أحد أهم الأجهزة الأمنية في إسرائيل). لكن، منذ ذلك الوقت، حدث تحول واضح، بحيث بات أتباع هذا التيار، ولا سيما الذين ينهون خدمتهم الإلزامية ضباطاً في الوحدات القتالية يتوجهون إلى العمل في “الشاباك”. وعلى الرغم من أنه يتم التكتم على هوية العاملين في الجهاز، بحكم القانون، إلا أن معلوماتٍ كشف عنها أمير أورن، المعلق العسكري لصحيفة هارتس، كانت صادمة لكثيرين في إسرائيل، فقد أكد أورن أن ثلاثة مواقع من أهم أربعة مواقع في “الشاباك” يحتلها جنرالاتٌ، ينتمون للتيار الديني الصهيوني، فرئيس الجهاز، يروام كوهين، ونائبه وقائد القسم العربي في الجهاز من المتدينين الصهاينة، علاوة على أن معظم مواقع القيادة المتوسطة في الجهاز يهيمن عليها أتباع التيار.
”
تزداد نسبة أتباع التيار الديني في الرتب العسكرية العليا في جيش الإحتلال الإسرائيلي
”
وفيما يتعلق بالجيش الصهيوني، الأرقام أكثر افتضاحاً، فبعد أن كان أتباع التيار الديني الصهيوني الذين يمثلون 12% من إجمالي عدد اليهود في إسرائيل يشكلون، حتى مطلع الثمانينيات، 2% فقط من الضباط في الوحدات القتالية، فإنهم، يشكلون، الآن، حوالي 35%-40% من الضباط في ألوية الصفوة والوحدات القتالية، مع العلم أن نسبة المتدينين تفوق هذه النسبة في بعض الألوية والوحدات. وتزداد نسبة أتباع التيار الديني في الرتب العسكرية العليا، كما يقول النعامي، ومثلاً، ينتمي قادة ثلاثة من ألوية الصفوة الأربعة في سلاح المشاة للتيار الديني الصهيوني، فيما معظم قادة السرايا والكتائب فيها من التيار نفسه.
في رأس السنة اليهودية الذي صادف نهاية الأسبوع الفائت، يجري، عادةً، تقويم لأهم أحداث السنة، وقد رأى الإعلام العبري أن ما ميز العام العبري الفائت، انتشار نزعة التدين اليهودي. يقول الموقع الإسرائيلي (ماكو): “يبدو، في السنة الأخيرة، أن اليهودية نجحت في التغلغل في كل زاوية في حياتنا، واتخذت مكانتها في قلوب التيار العام في إسرائيل فجأة، يبشروننا بأن وزير التربية والتعليم، شاي بيرون، يرفق “دليلا روحانيًّا” لكل مدرسة، في مقابل إقامة هيئة غامضة، تدعى إدارة الهوية اليهودية؛ يصل الحاخامات ليلقوا المواعظ في الثُكنات، برعاية “قسم التوعية اليهودية” في الحاخامية العسكرية، وهي هيئة اسمها يستدعي إيحاءات غير مريحة عن غسيل الأدمغة”.
أهم تجليات تغلغل المتدينين على الوحدات الأمنية المختلفة، في بلد له طابع أمني طاغ، تبدو في طريقة التعامل مع ما يزيد عن الأربعة ملايين فلسطيني، يقبعون تحت احتلال مباشر خشن، أو ناعم ظاهرياً، وقبل القفز إلى نتائج يعلمها كثيرون في هذا الخصوص، نستذكر تقويماتٍ لكتاب صهاينة، منهم دانييل كارلي، يتوقع في كتابه “ملائكة في سماء يهودا” أن يسارع الجيش الإسرائيلي، تحت قيادة المتدينين، إلى إجبار الحكومة الإسرائيلية على السيطرة على المسجد الأقصى وتدميره وإعادة بناء الهيكل الثالث على أنقاضه، وطرد الفلسطينيين الذين يقطنون القدس والضفة الغربية في شاحنات إلى الدول العربية المجاورة.
وقد يبدو هذا السيناريو مستبعداً الآن، لكن مع جنون اليمين الصهيوني المتدين تبدو كل السيناريوهات ممكنة. وللمقارنة، نستذكر، هنا، ما قيل عن عمليات تهجير نصارى العراق على أيدي تنظيم “الدولة الإسلامية”، أو ما يعرف “داعش”، فلا نجد فرقاً جوهرياً بين الحدثين، ولئن تحدث كارلي عن سيناريو مفترض، فقد ارتكبت إسرائيل عمليات تهجير واسعة للفلسطينيين، على مدار المائة عام، ربما ليس لها مثيل في العالم، ابتداءً من عام النكبة مرورا بعام “النكسة” وأعوام النكسات التالية، عبر سياسة تهجير ممنهج، خصت بها مدينة القدس بقسط وافر.
”
ارتكبت إسرائيل عمليات تهجير واسعة للفلسطينيين، على مدار المائة عام، ربما ليس لها مثيل في العالم
”
ويرى الباحث الإسرائيلي، عمير بار أور، أن هيمنة المتدينين على الجيش تعني أنه سيتم إسدال الستار على أي فرصة لتحقيق تسوية سياسية للصراع. ويحذر باحثون وجنرالات في الاحتياط من إمكانية أن يستغل أتباع التيار الديني احتكارهم مواطن النفوذ في الجيش والمؤسسة الأمنية في التمرد على الحكومة، مع العلم أن مرجعيات فكرية للتيار الديني الصهيوني دعت، علناً، إلى عدم استبعاد الإعلان عن دولة مستقلة لهم في الضفة الغربية، يتم فيها تعطيل الحكم بالقوانين الوضعية، والعمل وفق تعاليم التوراة، بحسب ما يرى كتاب صهاينة.
لا تختلف أعمال العنف التي تُنسب إلى “داعش” عما فعله ويفعله الصهاينة بالشعب الفلسطيني، والفرق الوحيد أن تنظيم “الدولة” يصور عمليات قطع الرؤوس وعمليات الإعدام الميداني، فيما جرائم إسرائيل ومذابحها الشهيرة تتم وراء جدران مغلقة، أو في أزقة بعيداً عن أعين الكاميرات، وإن كانت جرائمهم في غزة في السنوات الماضية، كانت تحت بصر العالم وسمعه، حيث رأى الكوكب كله عمليات القتل التي تصل إلى حد الإبادة الجماعية، وطالت الشجر والحجر والبشر.
يتحدث العالم كله، اليوم، عن “داعش” فصيلاً إسلامياً متطرفاً، وينسون أن ثمة نسخة صهيونية يهودية من “داعش” لها دولة نووية، وجيش يصنف أقوى رابع جيش في العالم، ربما تكون هي السبب الرئيس في ظهور “داعش” بنسختها الإسلامية.
عن العربي الجديد
–
التعليقات مغلقة.