شعر درويش بين الآيدلوجيا السياسية و الآيدلوجيا الشعرية

44

01qpt871ما زال شعر محمود درويش منذ بداية ظهوره في ستينات القرن الماضي مثار تساؤلات ومحط اهتمامات لدى الدارسين وقد كتبت مقالات ونشرت بحوث ودراسات، وصنفت كتب ومؤلفات في شعره ملأت بعض الرفوف في المكتبات العربية وكل يسعى لإبراز ما يراه جديرا إبرازه في عطاء هذا الشاعر الذي تجاوز كل التوقعات غزارة وإبداعا فكانت له بصمته الخاصة في الشعر العربي الحديث. فبعد كتبه انعكاس «هزيمة حزيران 1967 في الرواية العربية» و»مقدمة في نظرية الأدب» ومن «إشكاليات النقد العربي الجديد» و»الرواية العربية في فلسطين والأردن» و»رواية الانتفاضة» و»أنماط الرواية العربية الجديدة «ومقاييس الأدب» و»فنون النثر العربي الحديث» و»طه حسين مئة عام من النهوض العربي» يأتي الكتاب الجديد لشكري عزيز الماضي «شعر محمود درويش ايديولوجيا السياسة وايديولوجيا الشعر» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، ودار الفارس بعمان (2013) ليمثل المغامرة الأولى للمؤلف في دراسة الشعر ونقده. فقد غلب على مؤلفاته المذكورة أنها تدور بصفة عامة حول الرواية، وفنون النثر الأخرى، وقلما تلتفت للشعر، ودراسته.
ولا يترك المؤلف القارئ نهْباً للوساوس، أو التوقعات، حول غايته من الكتاب، وهدفه من هذا المصنف. فهو يؤكد في المقدمة أن الغاية منه هي إنصاف درويش، وإنصاف شعره، لا سيما بعد الحملة المسعورة التي أثيرت بعد رحيله، فقد ساءه جدًا أنْ «يدور حوار بين كتاب يحمل بعضهم شهادة دكتوراه، وبعضهم يوصفون بالشعراء، ثم يكفّرون الشاعر، وشعره، وكأن الإسلام يبيح لهم محاكمة الناس في عقيدتهم وفقا لأهوائهم» إلى ذلك يهدف الكتاب لإراقة مزيد من الضوء على شعره «بعيدًا عن القراءات السياسية، التي ما فتئت تربط بين شعره ومتغيرات الصراع العربي- الإسرائيلي ربطا آلياً ميكانيكيا، فجعلوا يقرظون أشعاره المبكرة، ويقللون من شأن أشعاره المتأخرة، لهذا السبب أو ذاك، بعيدًا عن معطيات الفن الشعري، وبدلا من أن يسلطوا الضوء على شعره المتأخر، يسلطونه على علاقاته بالأشخاص، وعلى مواقفه السياسية من هذا الاتفاق أو ذاك، ومن تنظيم دون آخر.
ولهذا فإنّ شكري الماضي ينطلق، بمختصر العبارة، من مقولتين، أولاهما: تحول الشاعر درويش من شاعر مقاومة إلى شاعر حرية. وهذا يعني بمعنىً ما: المقولة الثانية، وهي الانصراف في تقويمه شعره من الايديولوجيا السياسية إلى ايديولوجيا الشعر، أي أن التزام الشاعر تجاه شعره، وتجاه تجربته الأدبية، والإبداعية، يمثل- في رأي المؤلف- ايديولوجيا بديلة للايديولوجيا بمفهومها السياسي الدوغمائي. وتبعاً لذلك، فإنَّ من دواعي الوقوف على تقويم صحيح لتجربة درويش أن تستبعد الايديولوجيا السياسية، وتقصى، من حيث هي معيارٌ جرى الاحتكام إليه في دراسة شعر درويش، وتحليله، ونقده في الماضي، مما أدى إلى أحكام تتصف بالعشوائية تارة، وبالتحيّز السياسي، وبالاختزال، الذي يبلغ حدّ الأسْطَرَة تارة أخرى.
وتأسيساً على ذلك، يقف بنا المؤلفُ في الفصل الثاني إزاء مسألة مهمّة، وأساسية، وهي الفرق بين الخيال السياسي والخيال الشعري. ففي بواكير درويش يتجلى النوع الأول بصفة لافتة، سواء في «أوراق الزيتون» 1964 أو في «عاشق من فلسطين» 1966 أو في «أزهار الدم» وهي قصائد قصيرة في قصيدة واحدة من ديوان «آخر الليل» 1967 وقد عرض المؤلف لقصائد من هذه المرحلة منبّهًا على ما فيها من حرارة الإنتماء، والحسّ المُقاوم، الذي لا يعوزهُ التحريض، ولا يخلو من تأجيج المشاعر، واستثارة النخوة.. إلا أنّ هذه الأشعار تظلُّ بسيطة، ساذجة، شكلا وفحوى، إذا وُوزنتْ بقصائده التي تلتْ ذلك في «العصافير تموت في الجليل» و»حبيبتي تنهض من نومها» و»أحبك أو لا أحبك» وغيرها من الدواوين، فهي، أي: القصائد المبكرة، لا ترقى لمستوى هذه القصائد من حيث أنها تتحقق فيها ايديولوجيا الشعر التي تقترح نظاماً استثنائياً في البناء، والتوصيل، وفي الخيال، وفي النظام اللغوي، ورؤية الشاعر للواقع.
وهذا ما ينبري للحديث عنه في الفصل الثالث الموسوم بالعنوان «التحول في نظام التوصيل».
فعلى الرغم من أنّ العنوان يوحي بنوايا المؤلف الرامية لتوضيح رأيه فيما عسى أنْ يكون الموقف التواصلي الذي يتبأر في قصيدة درويش خاصة، إلا أنه يضيف لذلك ما يمكن أن نعده مواجهة حقيقية بين القصيدة والمتلقي، فدرويش في رأيه أقلع عن القصيدة المَنْبريّة التي عرفناها في «سَجّلْ أنا عربي» و»أحنّ إلى خبز أمي» و»لمغنيك على الزيتون» و»الذي مات هو القاتل يا قيثارتي» إلى قصيدة من نوع أخر ونمط مختلف، تقوم العلاقة فيه- بين القصيدة والقارئ- على التفاعل المركَّب من التأثر والتأثير. ومن أجل ذلك نرى قصائده المتأخرة تدعو للتامل استنادا لفلسفةٍ مزاجُها «الارتباط بقضايا الإنسان، وقضايا العصر الجوهرية، وتحويل الذاتي إلى جَمْعي، والجَمْعيّ إلى كوني». ص54 وبذلك يكون محمود درويش بتلك الفلسفة الشعرية أو (ايديولوجيا الشعر) قد تحوَّل من شاعر المقاومة إلى شاعر الحرية. فهو لا يهتم ابتداءً بإثارة الانفعالات الصاخبة لدى جمهوره، إنما يستهدف استثارة النزعات التأملية لدى المتلقي، فمن يوازن قصيدته «من أنا دون منفى؟» من ديوان «سرير الغريبة» 1997 وقصيدة «رسالة من المنفى» وهي من ديوان «أوراق الزيتون» 1964 يلتمس في الأولى- المتأخرة زمنيًا- اتساع الرؤية، واتساع أفق التلقي، واتساع نظام التوصيل، مع اتصافها في الوقت ذاته: بـ «الرصانة، والتماسك» وتجسيدها «رؤية جديدة خاصة، وعميقة، للمنفى» (ص62)
فالغموضُ في القصيدة «من أنا.. دون منفى» غموضٌ ماسيّ، شفافٌ، وغير ضبابيّ، وفي ذلك يجد المؤلف شكري الماضي تجسيداً عملياً لايديولوجيا الشعر، فهي- أي القصيدة- نتاج الخيال الشعري الابتكاري، وليس الخيال الاسْتحضاري، بذلك يؤكد الشاعر أن الشعر هو «قول خاصّ لا يمكن أن يقال بغير الطريقة التي قيلَ فيها» ص66
وهذا كله لا يفي بأساسيات التوصيل بمفهوم الدكتور شكري الماضي؛ إذ لا بد من ملاحظة الركائز الفنية، ومنها تكرار اللازمة، بما يوفره هذا التكرار من انسجامٍ موسيقيٍّ، وصوتيّ، (ص68) لا سيما إذا كانت تتكئ من حيث الزمن على الفعل المضارع مثل: أريد، نريد، أكون، سأكون، أصير، مع استخدام علامات التسويف: سوف، والسين، التي تنقل الفعل المضارع من إطار الحاضر الآني إلى المستقبل الآتي.
ومختصرُ القول: أنّ درويشا يسعى من تكراره للازمة لـ «التنبيه، والتأكيد، والتشويق، وتجسيد دلالة إيقاعية، ومعنوية، ونفسية» علاوةً على الربط بين مقاطع القصيدة (69).
ويتتبّع الدكتور شكري بمثل هذه الأناة علاقة شعر درويش بالآخر. والآخر- ها هنا- هو اليهودي تارة، والإسرائيلي تارة، والصهيوني تارةً أخرى. فمفهوم الحرية في شعره يكتمل بتحرير أعدائه من أوهام العدوان، وهذا في رأي الناقد ينسجم مع تحول الشاعر من المقاومة إلى الحرية انسجامًا يتطلب تحرير الآخر بتحريرهِ أناه. ومن بواكير درويش التي نبّهتْ على هذه الظاهرة قصيدة «ريتا والبندقية» من ديوانه «آخر الليل» 1967. وقد ظهرت ريتا في غير قصيدة، في قصيدة بعنوان «ريتا أحبيني» وهي في ديوان «العصافير تموت في الجليل» 1970 وظهرت مرة ثالثة في قصيدة «الحديقة النائمة»، وهي في ديوان «أعراس» 1977 وظهرت مرة أخرى في قصيدة «شتاء ريتا الطويل» من ديوانه «أحد عشر كوكبًا» (1993) وعرض المؤلفُ لهذا كله دون أن تفوته الإشارة لقصيدة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» من ديوانه «آخر الليل» 1967 ولم يفته أيضًا أن يقف بنا إزاء الآخر في قصيدة درويش المطولة (حالة حصار) 2002 التي يحاول فيها- على ذمة المؤلف- استخلاص معادلة الأنا بالآخر في أجواء لا يغيب عنها الأمل والحب والحرب، مع التوكيد على السمة الإنسانية، والإيمان بالشعر وبدوره، وبإلحاح من درويش على أن المحاصِرَ- بكسر الصاد- هو المحاصَر، وأن السجان هو السجين. . وأن الخلاص من ذلك كله يتطلب تبديدا لأوهام العدوان، وتحريرَ المعتدي من صَلَفه:
إلى قاتلٍ
لو تأملت وجه الضحية
وفكرتَ
كنتَ تذكّرْتَ أمّكَ في غرفة الغازِ
كنتَ تحرّرْتَ من حكمة البندقية
وغيَّرتَ رأيكَ
ما هكذا تستعادُ الهويّة
وينتهي شكري الماضي إلى رأيٍ دقيق، وهو أنَّ معادلة الأنا بالآخر فكرة بقيت تهيمن على محمود درويش، وشعرهِ، حتى أيامه الأخيرة (ص99) وفي ذلك ما يثبتُ أنه، بتحوله من شاعر مقاومة لشاعر حرية، لم يتراجع، ولم يمتثل، ولم يتخلّ عن جلده، على النحو الذي توهَّمه بعض الدارسين المتعجّلين ممن طفقوا يتعقبون بعض الكلمات، أو العبارات، التي عدَّلها هنا أو هناك، فأقاموا الدنيا وأقعدوها ظانّينَ بالشاعر ظنَّ السوء، وأنهم بظنّهم هذا ينتزعون حجَرَ سنمار من الصرح الشامخ، والقصر المنيف.
فقد سلط بعض النقدة، ومن يتشبّهون بالشعراء، الضوء على ما في قصائد درويش المتأخرة من ظهور لافت للذات، مثلما يتضح في «ورْد أقل»، وفي «هي أغنية هي أغنية»، وفي «لاعب النرد»، وقبلها «جدارية محمود درويش». وديوان «لماذا تركتَ الحصانَ وحيدًا؟» فعدوا ذلك نكوصًا تارة، وتارة انكفاءً على الذات، ظنا منهم أن الشاعر الملتزم المقاوم، المُمانع، ينبغي له أن يتنازل عن ذاته، وأن ينبذها وراءَ ظهْره. وهذا ضربٌ باطلٌ من الظنّ. فالإنصافُ «يقتضي التأكيد على أن الذات في قصائد درويش المذكورة ليست ذاتاً رومانسية، تنشد الخلاص الفردي، أو تدّعي أنها مركز الكون. وهي ليست الذات التي تخلق العالم على هواها. فهي قصائدُ، على الرغم من حضور الذات فيها، لا تفتأ تتناول قضايا الإنسان: قضية الحياة والموت، والتاريخ، والزمن، والخلود، من خلال تجارب معيشة، حارّة، ومن منظور ذاتيّ خاص وحيّ. « ص105- 106 فالذاتُ، في «الجدارية» (1999) تحاورُ الموت، وتسخر منهُ، ومن قوته، وتبدو كقوة آمرة متحررة من الخوف، ومن المجهول، إذ ترى الموت لحظة مكثفة من لحظات الحياة:
لا تحدق
يا قويّ على شراييني لترْصُدَ نقطة
الضعف الأخيرة
أنت أقوى منْ
نظام الطب، أقوى من جهاز
تنفُّسي، أقوى من عسلي القويّ
ولستَ محتاجًا لتقتلني إلى مرضي.
ثم يقول في القصيدة :
ما شئتَ منْ معْنىً إلى معنىً
أجيُ، هي الحياةُ سُيولةٌ، وأنا
أكثفها،
أعرّفها بسلطاني
وميزاني.. (ص110)
فهو لا يفتأ يؤكـّــد خلود الشعر، وخلوده فيه. ولهذا، فإن «الجدارية»، برأي ماضي، وإن كانت الذات فيها بارزة، إلا أنها تعبّر عن المواجهة المستمرّة، الدائبة، بين الإنسان، والموت، مُجسِّدة بذلك رؤيتها الفنية الكلية التي تُسوِّغُ وصفها بجدارية خصبة، متجددة، تجدُّدَ الخضرة في الأرض البكر. ولا يفتأ الشاعر يؤكد هذا في غير قصيدة، كانت الأخيرة قصيدة «لاعب النرد» (2008) ففيها يراكِمُ الكثير من المصادفات في حياته، أو يخيل إليه أنها مصادفات، مضيئا بذكرها تحولات الذات وأقبية الأنا، عائداُ إلى تجاربه الخاصة السابقة عودة لا تشكل انكفاءً، ولا تراجعاً، بل اتساعاً في الرؤية، وتنوعًا في المواقف، من المكان، والعالم، والإبداع، والوجود، ومن الحقيقة والوهم، ومن المَجْد والأسْطورة، ومن الواقع والتاريخ. فذاته- ها هنا- ذوات متعددة، وهويته هويات عدة، لا هوية واحدة. وهذا ما ينسجم مع الانتقال من ايديولوجيا السياسة إلى ايديولوجيا الشعر.
وحرصا من المؤلف على إتمام الفائدة، أضافَ لكتابه قائمة بدواوين درويش، من ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» حتى الديوان الذي ظهر بعد وفاته، وهو ديوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي»2009 مشيراً للطبعات الكاملة وشبه الكاملة التي صدرت في أماكن شتى من العالم. وأضاف لهذا قائمة أخرى تضمّ الرسائل العلمية، والكتب، التي كتبت أو نشرت حول شعر مَحْمود درويش، وهي كثيرة جدًا. وعلى الرغم من أنّ الكتاب صغير الحجْم (160ص) إلا أنه عظيم القيمة، جمّ الفائدة، بما جلاهُ من غبار أثارهُ بعض المتنطّعين، وأضاف إلى دراسات محمود درويش لبنة جديدة تتمثل في أنه خلصَ من الايديولوجيا السياسية إلى ايديولجيا الشعر، وأن قصائدة المتأخرة على ما فيها من غموض تقيم نسقا جديدًا للتواصل الإنساني عبر الشعر، وقواعده، لا عبر النسق المعرفي، وأنَّ الخيال الشعري فيه خيال ابتكاريٌّ خلاق لا يكتفي باستدعاء المتخيل، ولكنه يقوم باختراعه، وابتكاره. ولا يعني طغيان الذات على بعض شعره المتأخر انكفاءً أو تراجعًا أو انسحابًا من معركة الوجود، ولكن السلاح هو الذي تغيّر بتغيّر النظام اللغوي، والبنائي للقصيدة.
مع هذا كله، لا بد من أسئلة نسوقها في نهاية هذه المقاربة السريعة للكتاب، فهل يسلم القارئ مع المؤلف أن الشعر ايديولوجيا، وهل اسْتخْدمَ المؤلف اللفظ مَجازاً، ألا ترتبط الايديولوجيا بمفهوم عقدي، دَعَويّ، لا فنيّ؟ فالشعر كما الفن يقوم على الخيال، والحس، والاستثارة، والوجدان، في حين أن الايديولوجيا تقوم على المنطق الحِجاجيّ، والإقناع بالمسائل العقلية، والبرهانات. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ أكثر متذوقي الشعر لا يقللون من شأن الشعر إذا قيل في فضاء ايديولوجي، بشرط ألا تطغى عليه الايديولوجيا العرفانية، والسياسيّة المباشرة. أما موقفه من شعْر درويش المُبكّر الذي لا يجدُ فيه المؤلف مزيّة تسوغ إعجاب الكثير من المقرّظين، فذلك انطباعٌ، لا يقوم على إثباته دليل. فنحن بقدر ما نرى في «أزهار الدم» من إبداع نرى في «الجدارية»، وفي «لاعب النرد»، و»حالة حصار»، فالتحوّلات التي اجتاحت شعر درويش اجتاحته على المستوى الكمّي، لا الجوهري.. نلاحظ مثلا أنّ في ديوانه «لماذا تركت الحصانَ وحيدًا؟» أجواءَ منْ قصائده القديمة الأولى، ومع ذلك لا نستطيع الأدعاء أن هذا الديوان يمثل انتكاسة في شعْره. وبالمقابل نجد في «سرير الغريبة» وفي «كزهر اللوز أو أبعد»، قصائد مفتعلة، ومحاولات في التجريب لا تبلغ بالشاعر حد الاكتمال، والتجاوز، ومع ذلك لا يقال: إن ذلك مظهرٌ من مظاهر الإخفاق، فليس من الواقعية أن يوضع شعر الشاعر- أيا كان- في سلة واحدة، وأن يوزن بميزان واحد دقيق. فضلا عما سبق، يذكر المؤلف بعض ما تعود به اللازمة المتكررة من مزايا على قصيدة درويش، مؤكدًا أنها تفيد التنبيه والتأكيد والتشويق والمَوْسَقة والربط بين المقاطع زيادة على أغراض نفسية، ومَعنوية إلخ.. وهذا قولٌ ينسحبُ على أي لازمة في أي قصيدة، ولا تختص بقصيدة درويش. فلو تذكر القارئ اللازمة في أنشودة المطر للسياب، لظن أن الدكتور الفاضل يعنيها بهذا التوْصيف، ويقصدها بذاك التوظيف. وقد توهم المؤلف أنّ «أزهار الدم» ديوان لدرويش، ذكره في الفصل الثاني، وأعاد ذلك وكرره في ثبت الدواوين، دون أن يذكر تاريخ النشر، ومكانه، واسم ناشره، والصحيح أن «أزهار الدم» قصيدة طويلة في ديوان «آخر الليل» وهي تتألف من قصائد قصيرة لكلّ واحدةٍ منها عنوانٌ مستقلّ. وينسحب هذا على «أغنيات للوطن» وهي قصيدة ذكرها المؤلف في الدواوين، مثلما ذكر «أزهار الدم». وبإشارة سريعة يذكر المؤلف أن العنوان (أزهار الدم) يذكرنا بـ «أزهار الشر» لبودلير، وهذا أيضا انطباعٌ يحتاج إلى إعادة نظر، لأن الشاعر نفسَه يشير في واحدة من قصائده، وعنوانها ( لوركا) لاقتباس العنوان من هذا الشاعر صاحب مسرحية «عُرْس الدم» وهي التي يقول في مطلعها:
عفو زهر الدم يا لوركا وشمسي في يديكْ
وصليب يرتدي نار قصيدة
أجملُ الفرسان في الليل يَحجّون إليكْ
بشهيد وشهيدة
وقد كان لوركا من أكثر الشعراء تأثيرا في شعر محمود درويش، وذلك مانبهتُ عليه في دراسةٍ لي ُنشِرتْ في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة 1998 ثم أعيد نشرها في كتاب «الضفيرة واللهب» 2000. والحقيقة أن مثل هذه الأسئلة، والملاحظات، لا تقلل من شأن كتاب الأديب شكري، وحسْبُه أنه كشفَ عنْ تحوّلات في شعر درويش لم يلتفت إليها أيٌّ من دارسيه، وهُمْ كثيرون.

إبراهيم خليل/عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.