شبح «داعش» في أميركا
بينما تدك الطائرات الغربية والعربية معاقل تنظيم الدولة الاسلامية أو «داعش»، فإن شبح «داعش» يطارد الأميركيين أينما ذهبوا بدءاً من الإدارة وحتى رجل الشارع العادي. بعد حوار سريع ومعتاد مع أحد سائقي التاكسي فى العاصمة واشنطن سألني الرجل، وهو من أصول أميركية لاتينية: هل ستنتصر الحرب على «داعش»؟ سؤال كبير لا يملك إجابته كبير الإدارة الأميركية الرئيس باراك أوباما الذي يتبادل الآن الاتهامات علناً مع أركان إدارته بخاصة الدوائر الاستخباراتية حول تقدير حجم «داعش» وكيف وصلت الأمور إلى هذه الدرجة. فبعد اعتراف مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كاليبر الذي قال فيه إن «الاستخبارات الأميركية قللت من حجم خطر «داعش» ولم تكن لديها تقارير واقعية حول مدى جاهزية واستعداد الجيش العراقي للتعامل معه»، اتهم أوباما أجهزة الاستخبارات فى بلده بالفشل في متابعة «داعش»، وهو ما جعل بعض المسؤولين في المجتمع الاستخباراتي يردون عليه باتهام آخر مفاده أن تقديراتهم بشأن «داعش» كانت صحيحة ولكن الإدارة لم تكن تستمع اليهم أو تلتفت انتباهاً لتقاريرهم.
قبل أيام قليلة سألني زميل طبيب يعمل في أحد المستشفيات الأميركية عن طبيعة تنظيم «داعش» وإلى أي مدى يمثل خطورة حقيقية على المجتمع الأميركي. سؤاله حمل نبرة قلق واستفهام وربما عدم ثقة من مسألة الحرب على «داعش»، ولكنه أيضا كان يحمل خوفاً باطنياً من احتمال تكرار مأساة 11 ايلول (سبتمبر) 2001 وهو ما تأكد بعد مناقشة سريعة معه، فقد قال صراحة: «أنا وعائلتي لا نشعر بالأمان منذ أكثر من عقد». سؤال الرجل وحالته ذكّراني بـ»جمهورية الخوف» التي وُجدت ولا تزال في العالم العربي، وأعادني سؤاله إلى استحضار حالة الخوف والقلق التي انتابت الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر وكانت سبباً في قرارات سياسية سريعة وخاطئة لا تزال أميركا والمنطقة تدفع ثمنها حتى الآن. وهو ما جعل زميلاً آخر يعمل في إحدى الجامعات الأميركية العريقة يتندر على استراتيجية أوباما التي أعلنها قبل أسبوعين للتخلص من «داعش» بأنها «كذبة سياسية جديدة». وهي الاستراتيجية التي تبدو مهلهلة ومتعجلة ولا تدرك حجم العواقب والنتائج التي سوف تخلفها. والأكثر من ذلك أنها تتجاهل الأسباب الحقيقية وراء ظهور «داعش» واستفحاله وبربريته. وهي الاستراتيجية التي جاءت على وقع الضغط الإعلامي والسياسي على إدارة أوباما حتى من داخل حزبه الديموقراطي من جهة، ومن همجية وبربرية «داعش» من جهة أخرى. حاول أوباما أن يعالج خطأ إدارته في الصمت على جرائم بشار الأسد وطائفية نوري المالكي فاختار «داعش» كي يطهره من هذه الأخطاء متناسياً أن التنظيم ذاته هو أحد ثمار الفشل الأميركي فى المنطقة طيلة العقد الماضي.
ربما ستنتصر الحملة الراهنة في تحجيم «الدواعش» عسكرياً وأمنياً، لكن ليس بالضرورة أن تستأصل فكرهم وجذورهم وأصولهم السياسية والفكرية والإيديولوجية. فالبنية السياسية والاجتماعية والدينية القائمة حالياً في العالم العربي لم تعد تنتج إلا كل خبيث وضار بدءاً من أنظمة شائخة فاقدة للشرعية، مروراً بجماعات قروسطية فاقدة للمعنى وغارقة في أوهام ماضوية، وانتهاء بمجتمعات تائهة وضائعة ومشتتة وغارقة في حروب وصراعات هوياتية وثقافية مدمرة. ومن يتابع مسيرة التيار الجهادي المتطرف سيكتشف بسهولة أنه يسير باتجاه مواز لمسيرة الضعف والانتكاس والتراجع العربي سياسياً وفكرياً وإيديولوجياً ومجتمعياً. وما كان لآلاف الشباب العربي أن يلتحق بـ «داعش» لولا أنه يئس وفقد كل أمل في التغيير والإصلاح الجاد والحقيقي. وما كان لهم أن يفاخروا علناً بقطع الرؤوس وجزّ الرقاب لولا أنهم يشعرون بكبت وكراهية وانغلاق إيديولوجي وطاقة مدمرة لا تراعي ديناً ولا خلقاً ولا إنسانية.
ولم يكن فشل «الربيع العربي» سوى دليل جديد وحجة تضاف الى حجج هؤلاء الشباب حول عدم نجاعة السياسة بمفهومها السلمي، ودافع مهم لاستحضار مفاهيم القوة والسلاح والعنف كإطار وحيد للتكفير والتدافع السياسي. صحيح أن قيادات التيار الجهادي هم ضد السياسة ابتداء، لكن قواعده وأعضاءه هم شباب فقدوا الثقة في كل ما هو حولهم وباتوا يفضلون الموت على الحياة.
ربما ستستفيد القوى المناوئة للربيع العربي، مؤقتاً، من فشل موجة التغيير، وهي تستثمر بقوة في وجود «داعش» الذي يمثل قارب نجاة لها إن لجهة تشويه فكرة التغيير والإجهاز عليها أو لتجييش الغرب وجذبه الى المنطقة مجدداً تحت مسمّى «الحرب على الإرهاب» وصرف الأنظار بعيداً عن «الربيع العربي»، مستخدمة في ذلك كافة الأساليب الإعلامية والمالية واللوجيستية. بيد أن التاريخ يشير إلى أن هذه مغامرة كبيرة وغير محسوبة، وربما ينقلب السحر على الساحر فتذهب المنطقة كلها باتجاه صراع وحرب سياسية وطائفية ودينية منهكة ومدمرة للجميع.
خليل العناني/عن الحياة
التعليقات مغلقة.