تماهي الروائي مع الشخصيّة الروائية

46

 

 

 

 يتناول الراوي نصّه الروائي من جميع الجوانب، ويختار طرقاً شتى في التعبير عنها، وتختلف طريقة التعبير، وأسلوبها من رواية لأخرى، ومن راوٍ لآخر، وذلك وفق ما تمليها عليه فكرة الرواية، وأحداثها، فيقع اختياره على صيغة محددة، يمضي بها حتى نهاية الرواية، ومقابل ذلك تتأثر الشخصيات التي تمارس أدوارها في الرواية، وتتصرف وفق الأسلوب، والطريقة التي يختارها الراوي، والأجواء التي يضعها فيها.

تعبر الشخصيات عن نفسها، وتتحرك في كل اتجاه حسب طبيعتها أحياناً، وتدخل الراوي في رسمها أحياناً أخرى، وتلعب شخصية الراوي نفسه، وطبيعتها، والحالة التي يكون عليها، دوراً كبيراً في ذلك؛ إذ يرسم الشخصية، ويتفاعل معها، ناسياً نفسه، أو متقصداً من جعلها متنفساً لواقعة، وحالته النفسية، وظروفه الحياتية.

فالروائي الروسي دوستويفسكي (1821-1881). يقف خلف شخصية المغامر – في روايته (المقامر)- الأستاذ، ويتماهى معه إلى درجة جعلت القرّاء يعتبرونه الأستاذ نفسه، والرواية وصفاً لبعض وقائع حياته التي عاشها؛ إذ تصوّر لنا أستاذاً مثقفاً، تمضي به الأحداث في الرواية إلى احتراف المقامرة، التي لا تقتصر على لعبة الروليت فحسب، وإنما المقامرة التي تصبح موقفاً حياتياً، يدفعه إلى المقامرة ليس فقط بالمال، إنما بكل شيء، حتى الحب أيضا.

فعلى الرغم من نجاحه في لعبة الروليت، وتمكنه من قواعدها، بل والاحتراف فيها أيضاً، نجده يخسر ما كسبه في اليوم التالي، أو في نفس اليوم، لكنه لا يتوقف عن ذلك، ويقامر في حب امرأة ارستقراطية، لا تعيره أي اهتمام، لكنه يسعى، ويحاول بكل الطرق استمالة قلبها، ليصل به الحال إلى التذلل لها، واستجداء حبها، ويعرف تمام المعرفة أنها لن تحبه أبداً، لكنه يرضى بذلك، ويمضي بموقفه حتى النهاية، ليقول :”يكفيني أني أحبك، وحسب”. هذا فقط يكفيه، أما رأيها فيه، وموقفها منه فلا يهم؛ لأنه سيستمر في رهانه؛ لعله يصل إلى قلبها، ويدركه، على الرغم من إدراكه استحالة ذلك؛ لأن الوجود كله هو مغامرة كبرى، حتى المذلة، والسقوط يجد فيهما متعة عظيمة.

وكأنه يتحدى الظروف في انسياق غير واعٍ، فالأستاذ – الذي يعشق باولين، الفتاة القاسية، والصعبة، التي لا تحبه، بل تحتقره، وتهينه، لدرجة خلق شعور بكرهها، والنفور منها، من قبل القارئ، وكرهه لأنه يحبها، ويتعلق بها، لدرجة الذل والخنوع والضعف- هو ديستويفسكي نفسه، الذي يتماهى معه، فتمتزج الشخصيتان في كل واحد، لتخرج لنا شخصية واحدة، تعبر عن رفض الواقع، وضرورة تحديه، ومن أجل ذلك لابد من خوض مغامرة في سبيلها، مغامرة تسعى للأمرين معاً، الشهرة والمال من جهة، والحب من جهة أخرى، عبر الإدمان عليهما معاً، وفي ذلك يجد لذته الكبرى، ونشوته الأبدية.

 

روائي كردي من سوريا

 

نشرت هذه المادة في العدد /70/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 1/12/2017

التعليقات مغلقة.